أجمع الدارسون لتاريخ مدينة المحمدية على أن تطور النسيج الحضري أو التوسع العمراني الذي شهدته هذه المدينة خلال المائة سنة الأخيرة قد تحقق عبر مسارين مختلفين. فإذا كان المسار الأول قد انطلق من المدينة السفلى (القصبة والمرسى) في اتجاه الشرق وأنشئت بموجبه أحياء العالية، التي حين تعذر عليها الامتداد شمالا ومواصلة انتشارها في نفس الاتجاه الشرقي بسبب الطريق السيار، امتدت شمالا في اتجاه واد النفيفيخ، فإن المسار الثاني اقتصرت حركيته على الساحل الأطلنتي الممتد على مسافة عشرين كيلومتر حيث أقيمت محطات اصطيافية واستجمامية، وبناء على هذا المعطى المورفولوجي خصصنا القسم الأول من هذه الدراسة للحديث عن المسار الأول ونخصص الآن القسم الثاني للتطرق للمسار الثاني. لعل قرب المحمدية من العاصمة الاقتصادية وامتلاكها لشواطئ جميلة أتاح لها أن تكون مدينة اصطيافية حاضنة لمجموعة من المحطات الخاصة بالاصطياف والاستجمام والاستحمام. لكن بمجرد إلقاء نظرة تاريخية على التطور والنمو اللذين شهدتهما هذه المحطات، يتبين للمتفحص أنهما اتسما، في مرحلة أولى، بالعشوائية ثم اندمجا لاحقا في إطار منظم. وفضلا عن ذلك، بإمكان هذه النظرة أن تكشف لنا عن أمور أخرى خاصة بتطور هذا القطاع محليا، ولا داعي للقيام بجردها دفعة واحدة في مقام تمهيدي، لنترك حل هذه الإشكال المنهجي موكولا للسياق، ولنبادر أولا إلى تحديد مسميات ومواقع هذه المحطات الاستحمامية. منذ ما قبل الاستقلال، سهرت البلدية، بتنسيق مع مجموعة هرسان (Hersant)، على التوفيق بين النمو الصناعي والتوسع السكني. في هذا الإطار، تم بناء إقامات خاصة بالراحة والاصطياف على طول الساحل الأطلنتي، رغم أن العوامل الطبيعية ليست في الغالب مواتية؛ ذلك أن الساحل يتشكل من نوعين من التضاريس: الصخور والكثبان الرملية. وحدها الأخيرة تغطي أحيانا شواطئ جميلة، مثل شاطئ مانسمان المجاور لشاطئ بون بلودان (Pont-Blondin). لكن الملاحظ أن النواة الأولى للإقامات الترفيهية بالمحمدية تقع في مكان يعرف سابقا بالمدينة الأوربية. ويمكن الآن تحديد موقعها على الشكل التالي: يحدها غربا الميناء (المرسى) والحي الصناعي، وشرقا شارع مولاي يوسف الذي يفصل المنطقة الساحلية عن النسيج الحضري، وجنوبا يحدها حي الإقامات الدائمة. الجدير بالذكر، فيما يخص هذه المحطة الاصطيافية الأولى، هو أن أغلب مالكي فيلاتها من أثرياء الدار البضاء، أرباب صناعة وتجارة وأطر عليا ومزاولي وظائف حرة الذين وقع اختيارهم على فضالة كمكان للراحة والاستجمام. لكن بمجرد ذهاب الأجانب بأعداد غفيرة مباشرة بعد الاستقلال وبسبب تسارع وتيرة نمو المدينة فقدت أكثرية هذه الفيلات وظيفتها الأصلية، وأصبحت مأهولة بالسكان بشكل دائم. لهذا صار من الصعب التمييز بين الإقامات الاصطيافية وبين تلك التي ليست كذلك، ولو أن غلبة كفة الإقامة الدائمة في وقت الفراغ واضحة لا غبار عليها. إذا اتجهنا إلى جهة غرب المدينة، نجد شاطئ زناتة أولاد حميمون الذين يشكلون قطبا لمقاومة التوسع الخاص بالتمدن. لم يدمج هذا الشاطئ في المدار الحضري إلا مؤخرا. هنا تشكلت فيما مضى محطة اصطيافية من بعض الكابانوهات انطلاقا من ملعب الكولف الذي يقع عند مصب الواد المالح. لكن ظهور شركة سامير وبناء المحطة الحرارية سنيب كان وراء اختفاء عدد من الكابانوهات. بإمكان كل من يتواجد بشاطئ المركز الذي أعطى النواة الأولى الموصوفة أعلاه، أن ينتقل بسهولة إلى شاطئ مانسمان، لأن هذين الشاطئين متجاوران ولا يفصل ينهما سوى أمتار معدودة. يتم الولوج إلى الجزء الشرقي من محطة مانسمان عبر طريق مسفلت يحادي تجزئة ياسمين ليفضي إلى ساحة ذات أشجار باسقة وارفة الظلال. هنا تتشكل الإقامات المطلة على البحر والمحتلة للساحل إما من صف واحد أو من صفين أو من ثلاثة، إلا أن القيام بجولة عادية داخل هذه المحطة يجعل الجائل يقف على جملة من الاختلالات بين مكوناتها. إلى جهة الشرق، تحتل الكابانوهات حيزا ضيقا إلى حد ما وهي تتشكل من صف واحد على طول الساحل. نمت هذه الكابانوهات وتكاثرت بطريقة تكاد تكون عشوائية. وإلى جهة الغرب، تطالعنا الكابانوهات المطلة على البحر ما عدا في أقصى الغرب حيث فسحت المجال لإقامة الفيلات. خلف هذه الكابانوهات تناسلت مجموعة من الفيلات بقليل من النظام. ونلاحظ هنا أن الفرق بين الاستيلاء العشوائي والاستيلاء الأقل عشوائية يفسر بالظروف التي تم فيها الاحتلال أصلا. يفيدنا التاريخ المحلي بأن الفرق إياه كان من ضمن العوامل التي عجلت سنة 1956 بإنجاز دراسة تغيت تنظيم التوسع الذي شهدته هذه المحطة. لكن بقيت تلك الدراسة بدون تفعيل يذكر مما جعل الكابانوهات تتكاثر وتتضاعف في فوضى عارمة. في وسط هذه المحطة الاستحمامية يقع المخيم الدولي لوران (Lorran) ذي الأشجار الباسقة والحانة الشهيرة. في فقرة سابقة من هذه الدراسة، كنت قد سجلت ملاحظة مفادها أن العوامل الطبيعية ليست دائما مواتية، وتلك ملاحظة يؤكدها موقع محطة بون-بلوندان عند مصب واد النفيفيخ. ومن المعروف أن هذه التسمية تعود في الأصل إلى أول قنطرة عبور بنيت فوق الواد وهي قنطرة بلوندان. في لحظات سابقة، بنيت إقامات كيفما اتفق بغير نظام في كلتا الضفتين. انطلاقا من سنوات السبعينيات، أعدت شركة عقارية من الدار البضاء تجزئة سكنية أخفت معالم الفوضى عن المارة النظار. هكذا يبدو أن وراء هذا الاحتلال العشوائي للأراضي الساحلية، نشأ ونما قطاع يستجيب لمواصفات التهيئة العمرانية منظم ومتشكل من مجموعة من التجزئات التي نذكر منها تجزئة سيستا (Siesta) الواقعة خلف شاطئ بون-بلوندان وتجئتي بلاج مونيكا وياسمين الواقعتين خلف شاطئ مانسمان. في البداية، تمكنت الشركة الفرنسية المغربية لفضالة (سيف) من الاستحواذ على الجزء الأكبر من أراضي هاتين المحطتين ولم يسلم من حيازتها سوى شريط ساحلي يقع عند مصب الوادي. إلى حدود 1960، كانت كل الأراضي التي أنشئت فوقها التجزئات تعود لملكية بعض الخواص الأجانب. بعد هذا التاريخ، انتقلت ملكية الأراضي إلى أيدي خواص مغاربة. وما كاد العقد الستيني ينتصف حتى سارعت الشركات العقارية المدنية إلى امتلاك جزء من هذه الأراضي الساحلية، وهو ما عتبر حينذاك مؤشرا على النمو والتطور رغم غياب مساهمة الدولة في ضمان تفاعل منظم بحكم ضآلة نصيبها من هذا الفضاء الساحلي. لقد تمثل أول مالك جهز تجزئة رفيعة المستوى (شاطئ مونيكا) في الشركة العقارية المدنية التي حدد رأسمالها في عشرة آلاف درهم، وكان مقرها بالدار البضاء. بدأت هذه الشركة في اقتناء الأراضي بهذا الموضع ابتداء من منتصف الستينيات. هكذا حصلت على 15 هكتار و28 آر و90 سنتيار من شخص أجنبي كان يملك تقريبا مجموع الأراضي الواقعة بين المكان الذي يوجد به حاليا مخيم لوران وبين مصب واد النفيفيخ. في شهر يونيو من عام 1970، حصلت هذه الشركة على الأراضي التي كانت قد استولت عليها الشركة العقارية لفضالة، وهي الأراضي المطلة مباشرة على البحر. بعد بضعة أشهر فقط، تسلمت نفس الشركة رخصة للقيام بعملية عقارية شملت 218 بقعة مجهزة على مساحة 30 هكتار. تراوحت مساحة هذه القع الأرضية بين 500 و600 متر مربع وبنيت فوقها فيلات راقية. في عام 1976، قرر الشخصان اللذان يملكان الأراضي الواقعة إلى غرب شاطئ مونيكا خلق تجزئة بهذا المكان. كان هذان الشخصان مضاربين عقاريين بارزين على مستوى المدينة بأسرها. تمكنا سنة 1966 من الحصول من أحد الأجانب على 20 هكتار وقاما بتجزئتها إلى 302 بقعة بمساحة تتراوح بين 200 و400 متر مربع. والآن ماذا عن تجزئة لاسيستا القريبة م بون-بلوندان؟ تمتد الأراضي التي بنيت فوقها هذه التجزئة بين شاطئ مونيكا ومصب واد النفيخيخ على مساحة تقدر ب27 هكتار و64 آر و90 سنتيار تم اقتناؤها من شخص أجنبي من قبل خمسة مغاربة بدرهم واحد عن كل كيلومتر مربع. هذا الشخص هو نفسه الذي باع الأراضي للمضاربين العقاريين اللذين أنشآ تجزئة شاطئ مونيكا. هؤلاء المالكون الجدد الخمسة كلهم وافدون على المدينة من خارجها؛ إثنان جاءا من الدار البيضاء واثنان آخران من الرباط، أما الخامس فينحدر من الحاجب بإقليم مكناس. كلهم كانوا يمارسون مهنا مختلفة تعود عليهم بموارد هامة. يتعلق الأمر بمدير عام لمؤسسة بنكية ومقول ومؤمن ومنعش عقاري وفلاح مزارع. بعد سنتين، في يناير 1973 تحديدا، باع هؤلاء الملاك الخمسة مجموع أراضيهم لشركة ’أخرى بثمن 2،90 درهم للمتر المربع الواحد، وقد كان لهذه الشركة رأسمال بقيمة 30.000 درهم. لم تقم في البداية سوى بتجزئة قسم من هذه الأراضي، أي تلك الواقعة خلف الكابانوهات وتلك المطلة على الطريق الرئيسية. بين سنتي 1982 و1983، ظهرت تجزئتان بشاطئ مونيكا أديتا إلى ارتفاع أثمنة الأراضي الواقعة في محيطها أو التي تشكل امتدادا لها، كما أديتا إلى تزايد الطلب على البقع الأرضية الصالحة لبناء إقامات ترفيهية؛ ذلك ما يشهد عليه تكاثر التجزئات وتفاقم المضاربات العقارية. والملاحظ بهذا الصدد أن العائلات التي رغبت في امتلاك بقعة أرضية لتبني فوقها إقامة من ذلك النوع فضلت أن تكون قريبة من منطقة سكنية راقية. فيما يخص نمط البناء، نلاحظ أن هناك نمطين يفرضان ذاتهما. هكذا يتميز شاطئ مونيكا بكبر حجم فيلاته التي اختفت وسط أغصان وفروع الأشجار المغروسة في الحدائق وعلى طول الأزقة. في الغالب، تعود ملكية هذه الفيلات إلى فئة من الأطر العليا، ويحيط بهذه الإقامة الراقية سور بني بعناية فائقة ولا يتوفر سوى على باب واحد. أما في التجزئات الأخرى، فيبدو أن الفيلات ذات أحجام صغيرة ومتوسطة وهي أقل من الأولى من حيث القيمة والجودة. تستقبل هذه المحطات في مجملها مواطنين مغاربة ينحدرون من الدار البيضاء وبنسليمان والرباط، إلا أن أغلب هؤلاء الوافدين ينحدرون من المدينة الأولى. إن هيمنة العاصمة الاقتصادية على فضالة ليست وليدة الأمس القريب، بل تعود إلى عقد العشرينيات من القرن الماضي، حيث بنيت المحطة الاصطيافية الخاصة بالمدينة الأوربية سابقا. ومن العوامل التي شجعت البيضاويين على اختيار المحمدية كمكان للاصطياف هناك إنشاء العديد من التجزئات الراقية والمتوسطة المطلة على البحر، ثم هناك إنجاز الطريق السيار الذي يسر التنقل بين المدينتين. كما استطاعت محطاتنا جلب عدد لا يستهان به من المصطافين المتحدرين من العاصمة السياسية وسرقت بالتالي الأضواء من محطات الهرهورة وشاطئ تمارة وشاطئ سيدي عابد…إلخ. تتوفر هذه المحطات على عدد قليل من المتاجر الخاصة بالمواد الغذائية من مشروبات غازية وفواكه وخضار ومعلبات وبعض السلع الأخرى كالتبغ والجرائد. يفضل المصطافون العاملون بالدار البضاء الحصول على مشترياتهم من المدينة عينها بأثمان عادية. لقد رأينا سابقا كيف أن قرب المحمدية قاد جزءا كبيرا من المصطافين إلى اختيار هذه المحطات، لأن بإمكانهم التبضع من متاجر المدينة حيث يكون الاختيار متاحا والأثمان معقولة. لا وجود لأي فندق (مصنف أو غير مصنف) في محطتي مانسمان وبون-بلوندان. مرة أخرى، نجد أن خاصية القرب من العاصمتين تفسر غياب تجهيزات فندقية. لقد اشتهرت مدينة المحمدية بمعلمتين فندقيتين مصنفتين (ثلاثة نجوم أو أكثر)، بالإضافة إلى بعض الفنادق الصغرى. هذان الفندقان المصنفان هما ميريديان وفندق سامير. بني فندق ميريديان (ميرامار سابقا) فوق مساحة كبيرة تنتمي للمدينة الأوربية وتطل على شاطئ المركز قريبا من الميناء، أما فندق سامير الذي شيدته المصفاة المعروفة بنفس الاسم، هو الآخر يشرف على نفس الشاطئ ويحتل الزاوية الناتجة عن تقاطع شارع مولاي يوسف مع الساحل. حوالي سنة 1968، أرادت شركة سامير المساهمة في التنمية السياحية على المستوى الوطني من خلال خلق شركة فندقية، لكن إدارة المصفاة لم تشيد سوى هذا الفندق الذي يحتوي على 400 سرير بدعوى التفرغ للمهام المرتبطة بتكرير البترول.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.