✍️ د. مهدي عامري
كاتب – أستاذ التعليم العالي
ينزف القلب، وتبكي العيون، وينفطر الفؤاد ألماً وكمداً حين يتأمل الإنسان ما آلت إليه أوضاع أمة الإسلام، تلك التي حملت ذات يوم نور الرسالة، وحرّرت الإنسان من تعظيم الأوثان إلى السجود لرب العباد، ثم انحدرت اليوم إلى دركٍ سحيق من الغفلة والفراغ والتبعية المهينة.
ثمة آية واحدة من كتاب الله، لو فُهمت كما ينبغي، لكان حالنا غير الحال، ومكاننا في هذا العالم غير هذا الهامش الباهت الذي نُدفع إليه دفعاً: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم.”
هذه الآية الكريمة ليست مجرد توصية عسكرية أو تذكير دفاعي، بل هي مشروع حضاري متكامل، يتأسس على منطق النفوذ في أوسع معانيه: القوة العلمية، الاقتصادية، الإعلامية، التكنولوجية، العسكرية، وحتى الرمزية.
واللافت أن الأمم الأخرى، ممن لا يؤمنون بالقرآن، قد فهموا هذه القاعدة وطبّقوها بحذافيرها، لا على سبيل التقوى بل سعياً للبقاء.
فدولٌ مثل الولايات المتحدة، روسيا، والصين، بل وحتى دول أصغر ككوريا الشمالية، عرفت جيداً أن من لا يملك القوة لا يملك القرار، ومن لا يُرهب أعداءه يُستباح، ويُنهش لحمه في وضح النهار دون رادع.
وفي المقابل، فإن دول العالم الإسلامي – التي يُفترض أنها الوارثة الحقيقية لهذه الرسالة – قد انشغلت عن جوهر القوة بمعارك شكلية، واستعراضات جوفاء، تسوّقها على أنها إنجازات قومية.
وهكذا نتابع بفخر غريب وأبله مسابقات أكبر منسف في التاريخ، وأضخم قصعة كسكس على وجه المعمورة، وأطول مائدة إفطار رمضانية تُسجّل في موسوعة غينيس، وكأن مجد الأمم يُقاس بالطعام لا بالأفكار والأسلحة والمصانع والجامعات.
وبينما تلتهم التفاهة عقولنا، وتُدجّن إرادتنا، يتحرك كيان غاصب لقيط، وُلد من رحم العدوان، بثبات وثقة وعقل استراتيجي بارد، ليهدم، ليقتل، وليجتاح الأرض والعقل والكرامة، دون أن يجد من يوقفه أو يردعه.
إنه الكيان الذي يُجيد فن الدعاية، والذي يُحسن استثمار الدم وتوظيفه لبناء سرديته القائمة على الخوف والتضليل.
فحين يُقتل أحد مواطنيه، تقوم الدنيا ولا تقعد، وتُستنفر وسائل الإعلام العالمية، وتُعقد المؤتمرات، وتُطلق التصريحات، وتتحرك الجيوش السرية والعلنية.
أما حين تُزهق أرواح أكثر من 400 ألف إنسان في غزة خلال أقل من عامين، فإن العالم يكتفي بالصمت، وأحياناً يدّعي التوازن، وكأن المذبحة ليست أكثر من خلاف عقاري بين جارين!
وفي هذا السياق، تؤكد المؤشرات الإحصائية أن سكان غزة تراجعوا من 2.2 مليون إلى 1.8 مليون، ما يعني أن زهاء 400 ألف روح بريئة قد أُبيدت، ليس بفعل زلزال أو طاعون، بل تحت نيران حاقدة، دقيقة، متقنة، مدعومة استخباراتياً وإعلامياً وتقنياً، وضمن منظومة إبادة عرقية ممنهجة، تقف وراءها قوى الشر القديمة والجديدة.
ولعلّ الأكثر إيلاماً من القتل هو الصمت العربي والإسلامي، ومن المؤكد أن هذه اللامبالاة قد تجاوزت حدود الخذلان إلى مربع التواطؤ، أو على الأقل العجز التام.
أما الكيان الذي يحتل، ويقصف، ويُمعن في الإهانة، فتحيط به دولٌ عربية لها جيوش، ولها أجهزة، ولها منابر، لكنها تخاف من ظله، وتحسب ألف حساب لمصالحها، لعلاقاتها، ولموازناتها، بينما تسيل دماء الأطفال والنساء والشيوخ على مرأى ومسمع من الجميع.
فأين أنتم يا من تدّعون السيادة؟ أين نخوتكم يا أصحاب القرار؟ أين غيرتكم يا من صرختم ذات يوم: “لن تمرّوا”؟
ها هو العدو يمرّ، ويعود، ويذبح، ويحرق، ويدمّر، ثم يحتفل بانتصاره، ونحن نكتب ونُلقي بيانات الشجب كما يسترسل النائم في أحلامه في سباتٍ طويل لا نهاية له.
إن بؤس الواقع العربي والإسلامي لا يكمن فقط في الضعف العسكري، بل في الخلل البنيوي العميق الذي أصاب منظومة التفكير لدينا. فالجامعات التي يُفترض أن تكون بيوت الحكمة، تحولت إلى مزارع للكسل والتكرار. والمراكز البحثية أضحت مجرد مقابر للورق. والعقول التي كان يمكن أن تُسهم في نهضة الأمة، هاجرت، أو سُجنت، أو كُسرت.
وفي المقابل، خصصت الدول الكبرى ميزانيات ضخمة لتطوير الذكاء الاصطناعي، والتسلح السيبراني، والحرب النفسية، والبرمجيات الهجومية، حتى باتت المعارك تُحسم قبل أن تبدأ، في مختبرات ومراكز تحكم ذكية لا صوت فيها للرصاص، بل لشفرة الكود وسطر البرمجة وخوارزميات القرار.
ووسط هذه المعمعة، تتراكم المهانة، ويزداد الخزي، وتتحول الكرامة من مفهوم وجودي إلى شعار مفرغ من محتواه. فبئس الحياة إن كانت بلا كرامة. وبئس الأمة التي تنسى رسالتها. وبئس القادة الذين لا يرَون في شعوبهم إلا أصواتاً في صناديق الانتخابات.
إن أمتنا اليوم على مفترق طريق صعب :
إما أن تستفيق وتستعيد وعيها ومكانتها من خلال مشروع نهضوي جذري، يقوم على العلم، والتكنولوجيا، والعدالة، والوحدة، وإما أن تبقى تتفرج على نفسها، والأمم تتكالب عليها كما تتداعى الأكلة على قصعتها، وبهذا تزداد غرقا في التبعية والفراغ.
إن الإسلام لم يكن يوماً دعوة إلى الخمول، ولا إلى الضعف، بل هو دين القوة و الاستعداد و البناء. وإن الأمة التي لا تصنع سلاحها بيدها، ولا تطور عقولها بعلمها، لا تستحق أن تكون في مقدمة الركب البشري.
فمتى تصحو أمة الإسلام؟ ومتى تُدرك أن عدوها لا يُواجه إلا بقوة تماثله، إن لم تتجاوزه؟ ومتى تعي أن الدم المسفوك في غزة، وفي القدس، وفي جنين، هو في رقبتها، وأن الله سائِلُها عنه لا محالة؟
اللهم إنا بلغنا. اللهم فاشهد..
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.