من يكون يكون القيصر..؟
أن تكون رئيسا للولايات المتحدة يعني ان تكون بالضرورة ديموقراطيا أو جمهوريا. هذه القاعدة جرت بها العادة طوال القرن العشرين وحتى نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين. ان تكون جمهوريا مشبعا بالامتلاء وفائض القوة كما حدث في عهد جورج بوش الأب وهو من جاء ليبشر العالم بنهاية الحرب الباردة والإطاحة بجدار برلين وتوحيد القارة العجوز وتأسيس نظام عالم جديد يسوده السلام والازدهار وهو ما تبشر به قيم الحضارة الغربية الحديثة كحقوق الإنسان والحرية والديموقراطية . و. و الخ.. والخيار المتبقي ان تكون رئيسا أمريكيا ديموقراطيا.. أن تكون استاذا للقانون رجل حكمة.. داعية سلام.. داهية في الحرب وماكرا في السلام وهو ما كان جديرا بالرئيس بايدن وقبله أوباما ( أوكرانيا و أفغانستان) .. هذه دورة القيادة في عالم السياسة هناك في الولايات المتحدة وهي سياسة كانت تعني للعالم أكثر بكثير مما تعنيه للمواطن الأمريكي المغيب في غالب الأحيان عما يجري ما وراء البحار إلا ما ندر زمن حرب الفيتنام وما أسفرت عنه حرب العراق و أفغانستان واخيرا الصدمة التي عصفت غيرت قواعد اللعبة بل عصفت بالموروث السياسي والحضاري لعالم الغرب.
– مشهد أحداث الكابيتول في واشنطن لا علاقة له بمشاهد السياسة في اثينا وفخامة عالم اليونان؛ بل هي بوادر أزمة متعددة الأبعاد. شهدنا بوادرها الأولى في العراق مع ارتفاع أعداد قتلى جنود الجيش الأمريكي وتسجيل خسائر ضخمة في الأموال والعتاد، ثم جاء جورج بوش ليخلف نفسه في أفغانستان – ولا مجال هنا للحديث عن دوافع الحروب الأمريكية أو أي حرب- والنتيجة لم تكن افضل هناك بل كانت نكسة حقيقية لها عدة أبعاد.. وهو ما وظفه ترامب بعناية في حملته الانتخابية الأولى والثانية و الحقيقة ان الوجع أكبر وأمرّ.
وجاء طوفان القرن الواحد والعشرين كتحصيل حاصل لانتكاس النظام العالمي الذي أراده صقور المحافظين الجدد عالما خالصا للأمريكان وهنا ستحدث الطامة الكبرى حين تصبح الإديولوجيا نظارات سوداء في ليل شديد الحلكة.. هكذا أراد جون بايدن ان يكون جمهوريا أكثر من جورج بوش الذي خلف نفسه وضخ مبالغ ضخمة لصالح الحرب الإسرائيلية على غزة والنتيجة لم تكن افضل مما حققه في أفغانستان وها هو ترامب يحاول التأكيد من جديد انه رجل غرب أمريكي لا يشق له غبار وسياسي جمهوري له دهاء لم يسبق له مثيل في معترك الخصم الآخر.. لكنه سقط في نفس خطأ الرئيس بايدن .. احاط نفسه بعدد هائل من المتعصبين وسقط في هاوية الاديولوجيا.. إنه خطأ الساسة الامريكان الأكبر؛ إنهم يربطون مصير أمريكا ( كأمة) بمصير دويلة احتلال.. يحاولون ان يصححوا خطأ اقترفته بريطانيا بإذنهم وبمباركتهم ولكن بخطيئة أكبر.. وليست أي خطيئة.. نتحدث الآن عن حرب إبادة حقيقية لم يشهد تاريخ الإنسانية مثيلا لها.
مواكب الرئيس ترامب في المنطقة العربية ومشاهد الإثارة و الدهشة أكبر من سابقتها في نسخته الأولى؛ فالصفقات الضخمة والهدايا الفاخرة جعلته ينسى مسلسل القضايا التي جرته للمحاكم وخرج منها كالشعرة من العجين وطبعا بحضور الاديولوجيا في كثير من الأحيان بل وجعلته يرتكب مزيدا من الأخطاء الفادحة.. لسان حاله يقول : صحيح أنا رجل أعمال له موهبة كبيرة لكني أيضا لي عقيدة ولي حلفاء في المصارف كما في المعابد. لقد حاول ترامب أن يظهر بمظهر إمبراطور صارم تجاه نتنياهو كما هو حازم مع حكام الإقليم لكنه فشل حتى في التمثيل؛ وليته كان بارعا كما زيلينسكي غير المحبب لقلبه. كان بإمكانه أن يطل بهيئة رجل نبيل وهو يتحدث لرئيس وزراء منبوذ تتربص به عشرات القضايا في المحاكم الإسرائيلية، يكفي ان يصدر أمرا حاسما لنتنياهو : توقف عن القصف ريتما تنتهي زيارتي للمنطقة؛ لكنه لم يفعل؛ ونتنياهو ليس غبيا ولا حتى ذكيا ليلتقط الإشارة.
سكرة القيصر كان لها وقع أكبر حتى أنه أفلت من يده زمام الراحلة ليجد نفسه فجأة في دمشق، وهذا خطأ أيضا قاتل، وبعد حين سيحدث نفسه طويلا: كيف حدث هذا ..؟ ليتني لم أفعل.. وكأس أخرى تصل به الثمالة إذ يقول : على إيران ان تكون ممتنة لدولة قطر لأنها دافعت عنها وتوسلت لنا ألا نهاجم منشآتها النووية.. و هذا استدراج مبطن للتنازل على مائدة المفاوضات.. إنها مكيدة لأجل إثارة غيرة الأخ الأكبر.. بل هي هي إهانة عظيمة لإيران بصفتها وريثة حضارة عريقة بحجم فارس و المفاوضات مازالت ( حامية الوطيس) كما تقول العرب في الحرب.. يصرح المبعوث الأمريكي للمنطقة ويتكوف؛ لن نسمح لإيران حتى بتخصيب بمستوى 1/%.. وهو ما تلقفه وزير الخارجية الايراني بعد مرور دقيقة او ما يزيد.. ويتكوف بعيد عن المفاوضات وهذا خطر أحمر بالنسبة لإيران. صحيح هي تبدو كما لو أنها منكفئة أو هادئة متبلدة لكنها تظل تفعل وهي التي تعرف جيدا أن الحرب في جانبها الأكبر حرب على الوعي وهو ما يدركه جيدا الحوتيون في اليمن، ذلك أن صاروخا واحدا ينطلق في اتجاه الشمال يبطل مفعول صفقات ترامب ويذهب بجلال ألف قيصر.
أمريكا كما يتضح لكل متابع أنها لا تخشي خصول إيران على سلاح نووي فغيربعيد هناك المئات منها لدى نتن ياهو نفسه ومئات أخرى لدى الهند وباكستان والعالم كاد يحبس أنفاسه، بل تريدها ان تنصاع لها كما تفعل دول المنطقة.. الا تقف حجرة عثرة امام مشاريعها في هذه الرقعة الحساسة لتضمن تفوقها الأعظم أمام الصين وحلفائها الروس.. تريدها فقط دولة إمبراطورية مخصية.. إنها دوامة رجال السياسة في أمريكا إنهم يتخبطون وسط التحولات الكبرى التي يشهدها الداخل والخارج .إنهم تائهون بين نظرية تؤمن بعقلية الفيل و أخرى بعقلية الحمار.
فاس في 18 – 5 -2025
ادريس حنبالي
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.