الانتاج العلمي السريع وتهميش الكفاءة البحثية قراءة نقدية في تحولات المشهد الأكاديمي المغربي في ظل الذكاء الاصطناعي

abdelaaziz63 ديسمبر 2025Last Update :
الانتاج العلمي السريع وتهميش الكفاءة البحثية قراءة نقدية في تحولات المشهد الأكاديمي المغربي في ظل الذكاء الاصطناعي

بقلم الدكتورة حفيظة مريت استاذة الثانوي التأهيلي

 

شهدت السنوات الأخيرة تحولا عميقا في المشهد الأكاديمي المغربي تجلى في صعود ما يمكن تسميته بثقافة الإنتاج العلمي السريع وهي ثقافة قائمة على الكم لا الكيف وعلى المظاهر لا المضامين فلم تعد الكفاءة العلمية تقاس بعمق الفكر أو بمردودية التجربة الميدانية بل بعدد المقالات المنشورة في مجلات مفهرسة وعدد الملفات المودعة في لجان التقييم وعدد الشهادات والمشاركات الملتقطة في صور تذكارية أكثر من كونها شهادات على جهد بحثي حقيقي.

لقد تسارعت وسيرة النشر بشكل غير مسبوق وأصبح الباحث يجد نفسه في سباق محموم مع الزمن يلهث خلف مؤشرات رقمية لا خلف أسئلة معرفية وفي ظل هذا التسارع تراجعت قيمة التجربة الميدانية التي كانت تشكل أحد أعمدة البحث الجامعي الرصين إذ لم يعد الميدان مصدرا للمعرفة بل مجرد فضاءا يستدعى شكليا لتزيين الورقة البحثية.

إنما يزيد الوضع تعقيدا هو انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي التي سهلت عمليه إنتاج النصوص والأبحاث فبات من الممكن إعداد ورقة علمية في ساعات قليلة بلغة مصقولة ومنهج منظم دون أن تمر بعرق التجربة أو حرارة التساؤل فهذه الأدوات رغم ما توفره من دعم معرفي وتقني ساهمت من حيث لا نشعر في خلق فجوة بين الجهد الحقيقي والنتيجة الشكلية وبين الباحث الميداني الصادق والمنتج الآلي السريع.

وما يزيد الأمر خطورة أن هذه الظاهرة لم تبق على الهامش بل تحولت إلى معيار ضمني في تقييم الكفاءة الأكاديمية حيث أصبح من يكتب أكثر يبدو أرفع شأنا ممن يبحث أعمق فاختلطت الأصالة بالاستنساخ والبحث بالتوليد اللغوي وغابت التجربة التي تثري النظرية وتمنحها الحياة.

إن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في ضياع الجدارة الفردية بل في تآكل المصداقية الجماعية للمؤسسة الجامعية المغربية التي باتت تنتج كما من المعرفة الورقية التي لا تتجسد في تطوير التعليم أو تحسين الممارسة التربوية أو الاسهام في النقاش العمومي وهكذا يتحول الباحث الميداني الذي كان في السابق منارة التكوين الجامعي الى شاهد صامت على زمن يكافأ فيه السطح ويهمش فيه العمق.

لم تعد الجامعة المغربية في ظل- التحولات الراهنة- فضاء لإنتاج المعرفة بقدر ما أصبحت سوقا لتداولها فقد طغى مبدأ الكم على الكيف وبرزت عقلية المردودية العددية التي تقاس بالمنشورات والتقارير دون مساءلة القيمة الفكرية أو الأثر العلمي وأصبح الباحث الحقيقي الذي يقضي سنوات في الميدان ويحتك بالواقع التربوي او الاجتماعي يجد نفسه على الهامش أمام اخرين يملكون مهارة التنميق الأكاديمي أكثر مما يملكون تجربة علمية حية.

ان هذا التحول أحدث زياحا في مفهوم الجدارة الاكاديمية فبدل ان تكون الجدارة مبنية على الاصالة والاضافة النوعية اضحت مرتبطة بمؤشرات رقمية وشهادات ورقية وهو ما يضرب مبدأ تكافؤ الفرص في الصميم ويكرس نوعا من الإقصاء الصامت للكفاءات الميدانية التي لا تملك أدوات التسويق الذاتي أو لا تنخرط في سباق النشر السريع.

ومن الناحية المعرفية فإن هيمنة هذا النمط من الإنتاج تفرغ البحث العلمي من وظيفته النقدية والاصلاحية وتحوله إلى نشاط شكلي منزوع الدلالة فالمقالات التي تنتج اعتمادا على أدوات الذكاء الاصطناعي أو على إعاده تركيب أفكار متكررة تفقد الصلة بالواقع المحلي ولا تسهم في معالجة الإشكالات المجتمعية الحقيقية كجودة التعليم أو التفاوتات الاجتماعية او إشكالات القيم إنها معرفة مغلفة لا تثمر أثرا لإنها لم تمتح من الميدان ولم تختبر بالتجربة.

أما على المستوى المؤسساتي فقد ساهم هذا الوضع في إضعاف ثقة المجتمع في الجامعة وفي الباحثين إذ يشعر المواطن أن الخطاب الأكاديمي لم يعد ينبع من حاجاته بل من متطلبات الترقية أو التقييم الإداري وتغدو الجامعة -في هذا التصور- فضاءا مغلقا ينتج خطابا موجها للجان أكثر مما يوجه للعامة في حين يفقد الأستاذ الباحث مكانته الرمزية بوصفه حامل مشروع معرفي أخلاقي قبل أن يكون حامل ملف إداري.

إن أسوء ما في هذه الظاهرة وأخطرها هو إفراغ البحث العلمي من إنسانيته إذ يغيب الباحث بوصفه كائنا مفكرا مبدعا متسائلا ويحل محله المنتج الالي الذي يقدم نصوصا جاهزة لا تحمل بصمته الشخصية ولا عمق رؤيته وهنا تتبدد القيمة الأخلاقية للبحث وتفقد المعرفة معناها التربوي والانساني ولعل ما تحتاجه الجامعة المغربية اليوم ليس فقط مراجعه أليات التحفيز والتقييم بل إعاده تعريف لمفهوم الباحث ذاته أن يعاد الإعتبار للملاحظة الميدانية وللتجريب وللكتابة التي تنبت من التجربة لا من الخوارزميات وأن يفهم النشر العلمي باعتباره اثرا إنسانيا قبل أن يكون وثيقة للترقية.

لقد أفرزت ظاهرة الإنتاج العلمي السريع واقعا مقلقا يتمثل في تأكل المصداقية الأكاديمية داخل مؤسسات التعليم العالي المغربية فحين تصبح الكفاءة مرتبطة بعدد المقالات المنشورة بدل قيمتها المعرفية ينهار تدريجيا مبدا الجدارة العلمية الذي يشكل الأساس الأخلاقي لأي منظومة بحثية إن فقدان الثقة في المساطر التقييمية وفي معايير الانتقاء الأكاديمي وفي نزاهة اللجان العلمية يعمق الاحباط لدى الباحثين الحقيقيين ويقوض الايمان بدور الجامعة بوصفها سلطة معرفية ومجتمعية.

ويزداد هذا التآكل وضوحا حين نلاحظ ان بعض الملفات العلمية التي تحظى بالقبول لا تستند إلى تراكم ميداني أو إسهام فعلي في الحقل التربوي أو الاجتماعي بل الى تجميع شكلي لمواد نظرية تقدم في قوالب لغوية جذابة في المقابل تقسي أعمال الباحثين الميدانيين الذين يشتغلون في صمت ويقدمون بحوثا ذات صلة مباشرة بحاجات المجتمعي المدرسي أو المحلي لأنها لا تتطابق مع منطق النشر السريع ولا مع ذائقة اللجان التي اعتادت على النماذج المكررة.

إن هذه الوضعية تفرز نوعا من الاغتراب الأكاديمي فالباحث الجاد يجد نفسه غريبا داخل المؤسسة التي يفترض ان تحتضنه وهو اغتراب لا يمس الأفراد فقط بل يمتد الى صورة الجامعة في المجتمع إذ يفقد الناس الثقة في أن ما ينتج داخل أسوارها يعبر عن واقعهم أو يسعى لتحسينه وتتحول الجامعة بذلك من فضاء للتنوير إلى ادارة انتاج ومن مختبر الى أرشيف للوثائق.

ولا يمكن استعادة هذه المصداقية إلا بإعادة الاعتبار الى المسار الميداني في البحث بوصفه معيارا للعمق والصدق العلمي فالجامعة التي لا تضع الميدان في صلب تكوينها تفقد جذورها في الواقع وتتحول الى فضاء نظري معزول وان اشراك الأساتذة الباحثين في مشاريع تطبيقيه وربط الترقية العلمية بالمشاركة الفعلية في مختبرات ميدانية وتشجيع النشر القائم على البيانات الأصلية والملاحظة المباشرة كلها اجراءات قادرة على إعادة التوازن المفقود بين النظرية والممارسة.

كما أنه يجب على المؤسسات الوصية أن تعيد النظر في منظومة التحفيز الأكاديمي فبدل مكافأة الكم ينبغي مكافأة الأثر وبدل منح الامتياز على الورق يمنح على المشروع العلمي القادر على أحداث تغيير ملموس في التعليم والمجتمع وهذه الرؤية قادرة على إعادة الثقة في القيمة الأخلاقية للبحث العلمي واحياء الإيمان بدور الجامعة كرافعة للمعرفة والتنمية لا كمنصة للترقيات الشكلية.

ليس الغاية من هذا المقال الطعن في كفاءة أحد او الانتقاص من جهود الزملاء والباحثين فكل إنتاج علمي كيف ما كان مصدره يضيف لبنة في بناء المعرفة غير ان الاشكال العميق الذي نروم الإشارة اليه هو اختلال ميزان التقدير داخل المشهد الأكاديمي المغربي حيث غيبت الكفاءات الميدانية الصادقة وتراجعت مكانة الباحثين الذين جمعوا بين الممارسة المهنية والهم العلمي لان العمل اليومي المتواصل في الفصول الدراسية او في الميدان التربوي سلبهم وقت النشر لكنه لم يسلبهم روح البحث ولا شغف المعرفة ولا وعي الرسالة.

إن هؤلاء الباحثين الصامتين يشكلون في الحقيقة العمود الفقري للجامعة والمدرسة معا هم الذين يربون الاجيال على التفكير النقدي والمسؤولية ويغرسون فيهم قيمة العمل لا المظاهر غير أن بريق المنشورات العلمية السريعة والملفات الورقية اللامعة جعل اصواتهم تتوارى خلف ضجيج المؤشرات الرقمية.

إن الانصاف العلمي يقتضي ان نعيد الاعتبار لهؤلاء الذين يشتغلون في صمت ويقدمون بحوثا من واقعهم ويجعلون من الميدان مختبرهم الحقيقي لا من الشاشات او التطبيقات.

إن الدعوة الى اعاده التوازن بين الجهد العلمي الميداني والانتاج الورقي السريع ليست موقفا ضد أحد بل هي صرخة من اجل الجامعة نفسها ومن اجل روح البحث العلمي التي بدأت تفرغ من معناها الانساني فالبحث ليس منافسه عددية بل فعل وجودي يروم فهم الانسان والواقع وتغييره.

من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى إصلاح شامل لأليات التقييم والتقدير داخل منظومة التعليم العالي بحيث يثمن العمل الميداني الحقيقي ويشجع الباحث الذي يشتغل على مشروع تربوي أو اجتماعي ملموس ويمنح الاعتراف لكل من جمع بين الممارسة المهنية والعمق الأكاديمي كما ينبغي ان تستعيد الجامعة رسالتها الأصلية ان تكون فضاءا للحرية الفكرية والبحث الصادق لا مؤسسة لإنتاج الشواهد وتوزيع الميزات.

إن الكفاءات العلمية التي ظلت محجوبة عن الضوء ليست غائبة عن العلم بل مؤجلة بفعل ظروف العمل وضيق الوقت لكنها رغم ذلك تضل حاملة لنبض المهنة وحس المسؤولية والايمان بان العلم لا يختزل في الورق بل يقاس بقدر ما يغير في وعي الاجيال وحياتهم ويسهم في تنمية الفكري والفني.

إنها دعوة الى أن نعيد النظر في سلم القيم الجامعية وأن نرفع رأس الباحث الميداني كما نحتفي بالمنشور الأكاديمي لأن الوطن يحتاج إلى الاثنين معا إلى فكر يكتب وإلى فكر يمارس.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading