الإيثار على النفس، وجزاؤه يوم تحاسب كل نفس

voltus19 مارس 2021Last Update :
الإيثار على النفس، وجزاؤه يوم تحاسب كل نفس

 

إن خلق الإيثار له أهمية قصوى في انتعاش اقتصاد كل بلد . ويعتبر دواء شافيا لمرض الأنانية المتسلطة وحب الذات . كما يجعل الإنسان عضوا فعالا في بناء الأمة ، يسعد بها وتسعد به ، ويحافظ عليها وتحافظ عليه .
فالإيثار من فعل : آثر إيثارا . وآثره : أكرمه واختاره وفضله. ومعناه : أن يفضل الإنسان غيره بالمال ، وبكل شيء على نفسه وإن كان هو في غاية الحاجة والفاقة إليه . ويتجلى في بذل المسلم ماله بسخاء ، مع حبه الخير للجميع ، وإيثارهم على نفسه .
• التأصيل الشرعي لخلق الإيثار :
 قال الله عز وجل : ( ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون …).(1)
 وقال تعالى : ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ….) (2).
 وقال جل شأنه : ( وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ….) (3).
فإيثار المؤمنين، ليس غنى عن المال ، ولكنه عن حاجة وفقر ، وتلك غاية الإيثار . ومن حماه الله وسلم من البخل ، أفلح ونجح . والشح، هو : البخل الشديد ، مع الجشع والطمع . قال ابن عمر : ( ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمع عينه فيما ليس له ) .(4)
فأي شيء يفعله الإنسان من وجوه البر والخير، يلقى أجره وثوابه يوم القيامة ، خيرا له مما قدم في الدنيا من صالح الأعمال. ومن ثم ، يكون رابحا في تجارته مع الله تعالى . فلا يمكن أن يصاب بالكساد والخسران أبدا.
فبالإيثار تزيد الألفة بين القلوب ، وتزال الضغائن والأحقاد ، ويصلح المجتمع ، ويستقيم أمر الناس، وتسود المحبة بين الجميع . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .(5).
وقال عليه الصلاة والسلام : ( إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ). (6). وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( خصلتان لا تجتمعان(7) في مؤمن: البخل وسوء الخلق ). (8) .
ويعاتب الله عز وجل يوم القيامة الذين منعوا أموالهم عن السائلين ، كما ورد في الحديث القدسي : ( با بن آدم ، استطعمتك فلم تطعمني …قال : يارب ، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ! ….قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ ….يابن آدم ، استسقيتك فلم تسقني …قال : يارب ، وكيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ ! …قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه . أما علمت أنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي ؟ ! )9 .
وقد استوقفني كلام نفيس للأستاذ : عفيف عبد الفتاح طبارة ، يقول فيه : ( فالبخل يصيب المجتمع بأشد الكوارث والأضرار، فهو يزرع الأحقاد في قلوب المحرومين ، نحو الأغنياء البخلاء ، مما يجعلهم يتحينون الفرص للتألب عليهم وتدمير ممتلكاتهم . وما حصل عبر التاريخ من ثورات دامية مدمرة ، كان مصدرها بخل الأغنياء ، الذين استأثروا بخيرات المجتمع ، وراحوا يصرفون أموالهم على ملذاتهم وشهواتهم . بينما أبناء وطنهم ، يقاسون الحرمان ويشتهون لقمة العيش …

فالإسلام يعتبر المال الذي في حوزة الإنسان ، هو مال الله ، أعطاه للإنسان كوديعة ، لينفق منه على نفسه، وعلى المستحقين من عباد الله . فالبخل به على المحرومين ، هو احتكار للوديعة ، ومنع للمال من أن يؤدي دوره الخير في المجتمع ، مما يؤدي إلى انعكاسات سيئة على أصحاب الثروات) (10).
فقوة إيمان المسلم ، تجعله يؤثر غيره على نفسه ، فيكون سخيا بماله ، وبصحته ، وبقوته ، وبكل شيئ مقابل الفوز بالجنة . فالمؤمن الحقيقي ، والأخ الوفي ، والصديق الصادق ، والجار المخلص ، يظهرون في وقت الشدة والضيق. أما وقت الرخاء ، فليس معيارا لاختبار صدق هؤلاء ومحبتهم ، وإيمانهم ورجولتهم ، بل وإنسانيتهم كذلك.
فالكرم ، والسخاء ، والجود ، صفات كريمة ، وأخلاق عظيمة ، تخلق بها الرسل والأنبياء والصالحون. أما الشح والبخل ، والأنانية ، والإفراط في حب الذات ، وإقصاء الغير ، صفات ذميمة ، وأخلاق سيئة . فلا يجب على المسلم ، أن يتحلى بها ، لأنها تقدح في مروءته وسمعته وشرفه ، كما تدل على قساوة قلبه ، وفقدانه من الرحمة ، واستعظامه لنفسه ، واحتقاره للغير وازدرائه منهم . وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( الكريم قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد عن النار ، ….والبخيل بعيد عن الله ، بعيد عن الناس ، بعيد عن الجنة ، قريب من النار )(11).
• فضائله .
يعود الإيثار المسلم على حب الخير للجميع ، ويجعله مشبعا بالأخلاق الإسلامية الراقية . وبذلك يواصل أداء رسالته الخلقية المثالية في الحياة . ومن الصور التي تشكل نموذجا حيا لخلق المسلم في الإيثار وحب الخير ، – أذكر على سبيل المثال لا الحصر- :
1) الإمام علي كرم الله وجهه ، الذي آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة، فقدم أعلى مثل في الإيثار والتضحية والفداء . فلما قررت قريش أن تغتاله صلى الله عليه وسلم ، بحث على من ينام في فراشه ، ليموه على المتربصين به . فكان علي بن أبي طالب ، هو الذي آثره صلى الله عليه وسلم .
2) أبو طلحة الذي آثر ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه وعياله. فلما أحضرت زوجته الطعام ، قامت إلى السراج كأنها تريد إصلاحه ، فأطفأته ونومت أطفالها ، وهم يشتكون من شدة الجوع . فأخذ الضيف يأكل في الظلام وحده حتى شبع ، و باتت الأسرة كلها جائعة . فتعجب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ، وتبسم . فنزل قوله تعالى : ( ويوثرون على أنفسهم ولو كـــــــــــان بهم خصاصة …) . وقد سبقت الإشارة إلى هذه الآية .
3) أبوبكر الصديق رضي الله عنه ، الذي تصدق بجميع ماله . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله .
4) عكرمة وأصحابه الذين عرض عليهم الماء يوم اليرموك . فكان كل واحد منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو جريح مثقل ، أحوج ما يكون إلى الماء . فرده الآخر إلى الثالث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم . ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
5) جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – ، يقول : يارسول الله ، يجعلني دائما أبدأ بالسلام ، ولا يبدأ هو بالسلام.

فاستدعى النبي (عليه الصلاة والسلام ) عليا – كرم الله وجهه – ، وقال له : يا علي : لماذا تجعل عمر يبدأك بالسلام دائما ؟ فيجيب علي :(لأني سمعتك يارسول الله ، تقول : من بدأ أخاه بالسلام ، بنى الله له قصرا في الجنة ، فأردت أن يبدأني عمر ، فيأخذ ذلك القصر في الجنة ) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

من إعداد : الدكتور إبراهيم المعتصم السڭراتي

  • موظف بالمراقبة المالية المحلية بنظارة الأوقاف بتيزنيت.
  • منخرط في الاتحاد العام الوطني لدكاترة المغرب .

الهوامش:

1) سورة الحشر، الآية: 09 .
2) سورة المزمل ، الآية : 18 .
3) سورة فاطر ، الآيتان : 29 و30 .
4) حاشية الصاوي : 4/190 .
5) متفق عليه .
6) أخرجه مسلم .
7) فلا يجتمعان مع الإيمان، لشرفه ، وخستهما. لإضرارهما بخلق الله تعالى . والمؤمن مصدر لكل خير ، كالنخلة ينتفع بكل أجزائها .
8) رواه الترمذي .
9) رواه مسلم في باب البر .
10) انظر: الخطايا في نظر الإسلام ، للأستاذ : عفيف عبد الفتاح طبارة . الطبعة الثامنة، 1985. م .
ص: 132-133 .
11) رواه الترمذي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – ، بلفظ : (السخي ) .

 

 

 

 


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading