بقلم: محمد اكن
منذ عقود طويلة، يعيش الشرق الأوسط في حلقة مغلقة من الدماء والصراعات، وكأن الحروب قدر محتوم لا مفر منه. أجيال متعاقبة نشأت على مشاهد الدمار واللجوء والفقدان، وورثت مشاعر الكراهية كما يُورث الإرث العائلي. في خضم هذا الواقع المأساوي، يطل المفكر الإسرائيلي توم ويغنر من خلال كتابه الثورة الإبراهيمية برؤية مختلفة، رؤية تضع الإنسان في مركز الحكاية قبل السلاح والسياسة، محاولةً تقديم إطار فكري وروحي للخروج من دوامة العنف المستمرة.
ويغنر لا يتحدث عن سلام بمعناه التقليدي، ولا عن مفاوضات سياسية مرهقة طالما سُمعت دون جدوى، بل عن ثورة فكرية وروحية تبدأ من الاعتراف بالمشترك الإنساني الذي يجمع الأديان الإبراهيمية الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية. هذه الثورة ليست انقلابًا سياسيًا، بل انقلاب على طريقة التفكير نفسها، من منطق الكراهية والرفض إلى منطق التآخي والاعتراف بالآخر.
استدعاء شخصية إبراهيم عليه السلام في هذا السياق له مغزى عميق، فهو ليس مجرد أب روحي للأديان الثلاث، بل نموذج خالد للكرم والضيافة والعدل والتوحيد. سيرته تقدم للبشرية دروسًا عن التضحية، الإيثار، الوفاء، والرحمة، وهي قيم صالحة اليوم كلغة مشتركة تعيد وصل ما انقطع بين الشعوب. من خلال هذه الرمزية، يقترح ويغنر أن نستعيد التركيز على الإنسان نفسه قبل الهوية أو الانتماء الديني، وأن نحول فضائل إبراهيم إلى ممارسات عملية في حياتنا اليومية.
الحب والتآخي بين بني الإنسان ليسا شعارات للاستهلاك الإعلامي، بل ضرورة وجودية لمجتمعات أنهكتها الحروب الداخلية والخارجية. من غزة إلى بغداد، ومن دمشق إلى صنعاء، يعيش العرب يوميًا نتائج ثقافة الدم والكراهية، وما أثمرته من الخراب على جميع الأصعدة. التجربة التاريخية تثبت أن لغة الحرب لم تثمر سوى المزيد من الخراب، وهو ما يجعل الحاجة إلى خطاب بديل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
ليس ما يقترحه ويغنر مجرد حلم غربي، فهناك تجارب عربية وإسلامية أصيلة تعكس نجاح التعايش والرحمة. المغرب مثال حي على التسامح الديني، حيث تعايشت المجتمعات الإسلامية والمسيحية واليهودية لأكثر من قرون، مع الحفاظ على هوية كل منها واحترام الآخر. كما أن المبادرات الثقافية والحوارية بين الأديان في عدة دول عربية تدعو الشباب إلى فهم المشتركات الإنسانية، وتعليم قيم التعاون والعدل، بعيدًا عن الانقسامات الطائفية والسياسية. مؤسسات ثقافية عربية بدأت بالفعل في إشراك المثقفين والفنانين في مشاريع تهدف لتسليط الضوء على مفاهيم الرحمة والتسامح لتصبح جزءًا من الثقافة العامة، ما يثبت أن خطاب التعايش ليس فكرة نظرية بعيدة عن الواقع، بل يمكن تحويله إلى ممارسة ملموسة.
قد يرى البعض أن فكرة ويغنر مثالية أو بعيدة عن الواقع، لكن الواقع ذاته يثبت أن استمرار ثقافة العنف لن يؤدي إلا إلى المزيد من الخراب. إن ترجمة كتاب الثورة الإبراهيمية إلى العربية ستكون خطوة رمزية وعملية في الوقت نفسه، ليس لتبني كل فكرته حرفيًا، بل لفتح باب النقاش بين المثقفين والشباب العرب حول معنى التعايش وفهم جدوى الاستمرار في الحروب. الترجمة هنا ليست خضوعًا، بل فعل شجاعة معرفية يواجه به الإنسان العربي نفسه، ويمنح الأجيال القادمة نافذة أمل للحياة الكريمة.
أي خطاب للتعايش لا يمكن أن ينجح من دون عدالة، فسلام يتجاهل معاناة الشعوب أو يقفز فوق حقوقها لن يكون سوى وهم جديد. العدالة، كما علمنا إبراهيم، هي أساس التوازن بين الفرد والمجتمع، وهي شرط ضروري لإعطاء أي خطاب أخلاقي القدرة على التأثير. إدماج الحب والتآخي في خطابنا السياسي والثقافي، مستلهماً قيم إبراهيم في العدل والكرم والتسامح، يمكن أن يمهد الطريق نحو شرق أوسط أقل دموية وأكثر إنسانية.
يبقى السؤال أمامنا جميعًا: هل نستمر أسرى الماضي، سجناء الكراهية، رهائن الحرب؟ أم نجرؤ على التفكير بخطاب جديد يعيد للإنسان كرامته ويجعل من الحب والتآخي قاعدة لمستقبل مختلف؟ إن الثورة الإبراهيمية ليست وصفة جاهزة، لكنها جرس إنذار ونداء للحياة، دعوة لأن نضع الإنسان أولًا قبل أن تبتلعنا الحروب إلى الأبد. العالم العربي اليوم في أمس الحاجة لمثل هذا الخطاب، خطاب يجمع بين العقل والعاطفة، بين التاريخ والمستقبل، بين القيم الروحية والممارسات العملية. ترجمة الكتاب وقراءته بالعربية، وفهمه، والمبادرة بفتح حوار جماهيري حوله، قد يكون الخطوة الأولى لإعادة رسم مستقبل يتجاوز ثقافة الدم ويعيد للإنسان كرامته وحقه في الحياة.
في انتظار صدور النسخة الجديدة بالعربية نتمنى الصحة والعافية ومزيدا من التقدم والعطاء لصديقنا توم ويغنر.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.