بقلم : محمد اكن
قبل أن نحكم على الآخرين، قبل أن نطعن في انتمائهم أو نحاول فهمهم بطريقة ضيقة، دعونا نتوقف للحظة ونتساءل: ماذا نعرف عن حقيقة الآخر؟
كل ما تصوره عني، كل الحكم الذي تطرحه، هو انعكاس لصورتك أنت عن العالم، وليس أنا. أنا لستُ ما صنعتَه عني أفكارك، ولن أكون كذلك أبداً. كثير من الفلاسفة والمصلحين وأهل العرفان والتصوف كُفر وزُندقوا في عيون الآخرين، ومع ذلك ظلوا وفاءً لرحلتهم الروحية، صادقين مع أنفسهم قبل أي شيء. وهذه الحقيقة تذكّرنا بأن الحياة الروحية والفكرية لا يمكن حصرها في كلمات الآخرين أو أحكامهم، مهما بلغت قوتها أو حجمها
كم من مرة رأينا أشخاصاً يتجادلون على منصات التواصل الاجتماعي حول صوابية أو خطأ مواقف معينة، بينما يغفلون أنهم في كثير من الأحيان لا يعرفون عمق ما يناقشونه؟ كثير من الناس لم يبذلوا جهداً حقيقياً لفهم مصطلحات دينهم أو جوهر إيمانهم. ينتظرون وراء الزلات ليؤكدوا موقفهم، معتقدين أنهم بذلك يدافعون عن الله، وهم ينسون أن الله لا يحتاج إلى دفاع على منصات التواصل الاجتماعي، ولا يمكن أن تُختزل علاقته بالإنسان في ما يكتبه أو يعلنه أحدنا.
الإيمان فعل مبادر، هو المبادرة بالذهاب إلى أقصى ما نستطيع أن نؤمن به. الإيمان ليس مجرد كلمات تُتلى أو شعارات تُرفع، بل هو تجربة شخصية عميقة، مساحة حرية يمتلكها كل إنسان ليصوغ من خلالها فهمه للوجود، ويختبر طاقاته الروحية والأخلاقية. يمكن أن نؤمن بأي شيء، موجود أو غير موجود، لكن دائماً تكون لنا مساحة رحبة لممارسة هذا الإيمان، بلا ضغط أو وصاية. الإيمان هو لحظة مواجهتنا لذواتنا، حين نختار المضي قدماً رغم كل القيود الخارجية، رغم كل الأحكام المسبقة، رغم كل التشكيك.
أتذكر رجلاً كبيراً في السن، جاء إليّ يوماً يحكي كيف قضى حياته محاولاً أن يكون مثالياً وفق ما يمليه الدين، لكنه شعر دوماً بأن قلبه يطلب شيئاً آخر. قال لي: “كنت أحفظ كل الأذكار، وأصلي في وقتها، وألتزم بكل القواعد، لكن داخلي كان يصرخ: هل هذه هي الحقيقة التي أبحث عنها؟” في تلك اللحظة أدركت أن الفرق بين التدين والروحانية ليس مجرد كلمات، بل تجربة حياتية متواصلة، اختبار يومي للضمير، ووعي صادق لما نقوم به.
في المقابل، الإسلام كنظام تشريعي هو استقبال وتسليم. ليس لك فيه اختيار، فهو كاتالوج معد مسبقاً للتطبيق، يختلف جذرياً عن الإيمان الذي هو فعل شخصي ومبادرة حقيقية. هنا يكمن التناقض الكبير: بين تجربة روحية صادقة وبين إطار تنظيمي صارم يحاول فرض فهم موحد على الجميع. كثيرون يعيشون هذا التناقض يومياً، يطبقون التعاليم دون أن يعيشوا الإيمان، يرددون شعارات دون أن يشعروا بروحها، ويتساءلون عن معنى الحرية الروحية في قلب الدين.
الفرق بين الدين والتدين جوهري وأساسي. الدين هو الأصول والتعاليم المحكمة الصادرة عن المشرع أو من ينوب عنه، وهي غير قابلة للرد أو التغيير، بل للإنقياد والتطبيق فقط. أما التدين فهو التجربة العملية لتلك التعاليم، وهو عمل قائم على الاجتهاد، التأويل، والفهم الشخصي، مما يفتح المجال للخطأ والصواب، للتفسير والتأويل، وهو ما يجعلنا نتفاعل مع الدين بطريقة حيوية، مع أننا غالباً نعيش ونموت تحت قيود فهم الآخرين، سواء كانوا فقهاء أو شيوخاً أو علماء.
الخطاب الديني في مجمله ليس الدين نفسه، بل هو انعكاس لفهم شخصي أو جماعي لهذا الدين، وغالباً ما يُقدّم وكأنه مقدس لا يُناقش. بينما الروحانية هي ما يولد الإنسان به، هي فطرته، ضميره، حريته في اتخاذ القرار، وصدق تجربته الإنسانية. الروحانية هي ما يربط الإنسان بإنسانيته، هي الرقي الداخلي الذي يختبره الفرد في كل لحظة من حياته، هي النبل البشري الذي يظهر في المواقف الصعبة، في الأزمات، وفي علاقتنا بالآخرين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم
الروحانية ليست مجرد فكرة، بل هي تجربة حيّة تنمو مع كل فعل صغير تقوم به، مع كل لحظة صمت تتأمل فيها، مع كل موقف تظهر فيه الرحمة، مع كل قلب تتقاسمه الصدق والوفاء. إنها اختبار داخلي للضمير، وحوار دائم بينك وبين نفسك قبل أي شخص آخر. حين تصل الروحانية إلى أعماقك، تدرك أن الخير لا يحتاج شهادة، وأن الإنسانية لا تحتاج تصريحاً من أحد لتزدهر.
أتذكر فتاة صغيرة في حينا، كانت تساعد الجيران دون أن يُطلب منها ذلك، كانت تحمل طعاماً للمرضى وتجلس مع كبار السن لسماع قصصهم، دون أي اعتبار لدينهم أو طبقتهم الاجتماعية. قالت لي والدتها: “هي تفعل ذلك لأنها لا تعرف شيئاً عن الدين، لكنها تعرف ما يعنيه أن تكون إنساناً.” هنا تتجلى الروحانية بأوضح صورها، بعفوية وبساطة، دون أي تعقيد أو وساطة، لكنها أعمق تأثيراً من أي خطاب ديني رسمي.
الحياة الروحية ليست حكرًا على الكتب أو الكلمات المنقوشة على الجدران، ولا هي رهينة للأفكار الموروثة. إنها لحظة كل صباح حين تختار أن تحيا بصدق، حين تساعد دون انتظار مقابل، حين تتواصل مع قلبك قبل أن تتواصل مع العالم. إنها اللحظة التي تختبر فيها حقيقة الإنسان فيك، حين تعرف أنك قادر على الحب، على العطاء، على التسامح، حتى في أصعب الظروف.
ختاما :
فهمك لي أو لمحاولتي شرح هذه المسائل هو خيارك أنت. كل إنسان يملك الحق في فهمه الخاص، وفي أن يختبر الروحانية أو الدين وفق تجربته الشخصية. وكل من يريد أن يسيء الفهم، فليفعل، لأن الحقيقة ليست في كلمات الآخرين، بل في التجربة المباشرة، في اختبار الضمير والفطرة، وفي رحلة الإنسان نحو ذاته
الروحانية، بكل بساطتها وعمقها، هي ما يجعلنا أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على التواصل مع الآخرين بصدق وبدون قيد أو شرط. إنها الحرية الحقيقية، وهي الجسر بين ما نؤمن به وما نعيشه، بين الدين والتجربة الإنسانية، بين العقل والقلب، بين الفهم والتطبيق. وفي كل لحظة نعيشها بوعي وصدق، نزداد قرباً من هذا الجوهر، نزداد فهماً للحياة، ونكتشف أن الروحانية ليست خياراً ثانوياً، بل هي قلب كل تجربة إنسانية حقيقية، هي نور داخلي لا يمكن لأحد أن يسلبه منا.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.