عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم بايطاليا /
حين تتحوّل بعض المساجد و المنابر العلميّة والدينيّة في أوروبا وإيطاليا إلى جدران صمّاء
في عالمٍ أصبح يعاني من فوضى المعاني وسرعة التحولات، تتضاعف مسؤوليات من يتصدرون المنابر؛ سواء كانوا في قاعات الدرس أو في محاريب المساجد. ومع ذلك، يبدو أن كثيرًا ممن اعتلوا هذه المنابر قد فهموا “الهيبة” على نحو مغلوط: فصار الوجه المكفهر عنوانًا للجدية، والعبوس القَمْطَرير قرينًا للرصانة، وجفاف الأسلوب دليلاً على الرسوخ المعرفي. والحال أن الحقيقة مغايرة تمامًا: فالرصانة لا تُقاس بدرجة التجهّم، ولا العمق العلمي بعدد الكلمات الغامضة، بل بمدى وصول الفكرة، وإمكانية تفاعل المتلقي معها، عقلاً وقلبًا.
وهنا نستحضر قول الإمام الشافعي: “ما كلمت أحدًا إلا أحببت أن يُوفّق، ويُسدد، ويُعان، ويكون عليه رعاية من الله، وما كلمت أحدًا قط إلا ولم أُبال بيّنت الحجة على لساني أو لسانه”، فالعلم الحقّ لا يتغذى من التكبر، بل من الرغبة في البيان والرحمة في البلاغ.
في هذا السياق، تتكرّس مفارقةٌ صارخة في مساجد أوروبا، وتحديدًا في إيطاليا، حيث بات بعض الأئمة يُعيدون إنتاج هذا النموذج المعرفي المأزوم، لا في سياق جامعي، بل من على المنبر الديني. فيتحوّل الخطاب إلى طقوس لفظية مغلقة، تجترّ محفوظات لا تنفتح على الواقع، وتُقحم الجيل الجديد في هوّة نفسية بين ما يسمعه وما يعيشه. وكأن الإمام ليس حامل رسالة، بل حامل إرث لا علاقة له بالمكان ولا بالزمان.
لقد حذّر الفقيه المقاصدي أبو إسحاق الشاطبي من الجمود على ظواهر النصوص دون النظر إلى مقاصدها، قائلًا: “الجمود على الظاهر يؤدي إلى تعطيل المقاصد”. وهذا بالضبط ما يحدث حين يُختزل الخطاب الديني في تلقينٍ لا يُبصر الواقع، ولا يترجم الوحي إلى حياة.
ما يجمع بين المحاضر الجامعي الذي يجلد الجمهور بتعابير متعالية، وبين الإمام الذي يُلزم الناس برؤية أحادية، هو سوء الفهم لمفهوم “السلطة المعرفية”. فبدل أن تكون السلطة العلمية أداة تحرير للعقول، تصبح في أيدي البعض وسيلة لإخضاع الآخر، لا بالحجة، بل بالهيبة المصطنعة، والنبرة السلطوية، والحكم القطعي.
ليس المطلوب من المحاضر أن يكون مهرّجًا، ولا من الإمام أن يتحول إلى فنان استعراضي. لكن المطلوب – في الحد الأدنى – أن يحترم عقل المتلقي، وأن يدرك أن مهمته ليست استعراضًا معرفيًا ولا أداءً صوتيًا، بل جسْرًا للتوصيل، وإحياءً للرغبة في الفهم، وانخراطًا وجدانيًا في مشروع تواصلي مفتوح. كما يقول الفيلسوف بول ريكور: “الفهم الحقيقي لا يُولد من التطابق، بل من الترجمة”، أي من الجهد المشترك في العبور من عالم إلى عالم.
الصرامة لا تُقصي الطرافة، والجدية لا تتناقض مع خفّة الروح، والوقار لا يعني التجمد. تلك ثلاثية لو أدركها كثير من الأئمة والمثقفين، لتغير وجه الخطاب برمته. فالسخرية الراقية، حين توضع بين فقرتين علميتين، قد تفتح بابًا للفهم أوسع من مئة صفحة جافة. والمثل القرآني، حين يُوظّف ضمن سياق حداثيّ منفتح، قد يُوقظ في نفس الشاب الأوروبي ما لم توقظه خطبة بأكملها عن الحلال والحرام.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في منابرنا، بكل مستوياتها: هل نريدها أبوابًا مشرعة على المعرفة والحوار؟ أم جدرانًا صمّاء تحرسها لغة متيبسة؟ هل نريد أئمة يُربّون الجيل على الفهم العميق، أم مجرّد ناقلين لوصفات أخلاقية؟ هل نريد أساتذة يُعلّمون التفكير، أم موظفين يُكرّرون ما كُتب في المقررات؟
نحن نحتاج إلى إصلاح متعدد الأبعاد:
1. إصلاح الخطاب الأكاديمي حتى لا يُفرّغ من نبضه،
2. وإصلاح الخطاب الدعوي حتى لا يُفرغ من معناه.
3. نحتاج إلى كوادر علمية، ودينية، تُدرك أن الكفاءة ليست فقط في الحفظ، بل في التأويل، في التأقلم، في التفهيم، في بناء الثقة مع الجيل.
4. نحتاج إلى وجوه باسمة، لا بلهاء، وإلى عقول صارمة، لا متعالية.
* والخلاصة:
إن استمررنا نخلط بين الجفاف والرصانة، وبين الصراخ والسلطة، وبين اللغة المقعّرة والعمق الحقيقي، فسنجد أنفسنا يومًا ما في قاعة علم أو مسجد كبير… لا أحد فيه يصغي إلينا.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.