بقلم: محمد اكن
يشبه الشرق الأوسط اليوم قافلةً توقفت عند مفترق طرقٍ واسع، تفتّش في خزائن ذاكرتها القديمة عن رمزٍ قادر على حملها نحو أفق مختلف. فمنذ سنوات قليلة فقط، ظنت شعوب المنطقة أن العودة إلى “إبراهيم” بما يحمله من أبوةٍ جامعة وذاكرةٍ مشتركة، قد تكون المفتاح الذي يُعيد خياطة الجروح ويعطي العلاقات بين الدول روحًا جديدة. غير أنّ التجربة، رغم قيمتها الرمزية، كشفت أن الشرق، المُثقل بتحديات تتجاوز حدود العاطفة، يحتاج إلى سردية أخرى أوسع، أشدّ قدرة على احتضان المستقبل، وأقرب إلى لغة العلم وتحوّلات التنمية.
في هذا السياق، تبرز فكرة الانتقال من “السردية الإبراهيمية” إلى “السردية السليمانية”، ليس كبديلٍ يُقصي الأولى، بل كطبقة رمزية إضافية تمنحها استمرارية وامتدادًا. فإبراهيم هو جذرٌ روحي، بينما سليمان قد يكون شجرةً كاملة، تتشابك أغصانها بين الحكمة والخيال والقدرة على تحويل المعرفة إلى عمرانٍ وسلام.
لقد قدّمت اتفاقيات إبراهيم إطارًا أوليًا لإعادة ترتيب الذاكرة المشتركة وإحياء جانب من القرابة الروحية بين المسلمين واليهود والمسيحيين. لكنها بقيت، بطبيعتها التأسيسية، مشدودةً إلى الماضي أكثر من انشدادها إلى القادم، وإلى الرموز الدينية أكثر من انشدادها إلى مشاريع التنمية. ولذلك نشأ سؤال جديد: هل يمكن للشرق أن يبحث عن سردية تتجاوز جذور العائلة لتصل إلى هندسة المستقبل؟ هنا بالضبط يطلّ “سليمان” كشخصية تحمل كل المفاتيح التي يحتاجها عصرٌ يركض بسرعة العلم.
ففي المخيال الإسلامي، كما في المخيال اليهودي، يحتل سليمان مكانة استثنائية؛ نبيًّا وملكًا وحكيمًا، يجمع السلطة بالمعرفة، والدولة بالروح، والخيال بالقدرة على تحويل الطبيعة إلى حليف. وإذا قرأنا رموزه قراءةً سياسية–اقتصادية معاصرة، سنجد أن حديث الحيوانات الذي ورد في النص القرآني ليس مجرد معجزة، بل رؤية مبكرة لفهم النظم البيئية وذكاء الطبيعة. أما تسخير الريح، فيبدو اليوم أشبه برمزٍ للطاقة المتجددة وتكنولوجيا الحركة المستدامة. والسيطرة على “الجنّ”، تلك الكائنات الخفية، يمكن قراءتها كتعبيرٍ رمزي عن كل ما هو غير مرئي في عالمنا الحديث: الذكاء الاصطناعي، الخوارزميات، الحوسبة، الروبوتات، وكل القوى التقنية التي تعمل خلف الستار لصناعة القوة والنفوذ.
بهذه المقاربة، يصبح سليمان نقطة التقاء بين التراث والحداثة، بين النص الديني والمختبر العلمي، بين الحكمة القديمة وصناعة القرار في زمن تتسارع فيه تحولات الاقتصاد الأخضر، والتحوّل الرقمي، وأمن المياه والغذاء، وتحوّلات المدن الذكية. وهو ما يجعل “السردية السليمانية” قادرة على تجاوز الطابع الوجداني لاتفاقيات إبراهيم، نحو أفق وظيفي يربط الرمز الديني بالاحتياجات الملموسة للإنسان المعاصر.
سياسيًا، تحمل شخصية سليمان بعدًا آخر لا يقل أهمية. فبينما يسمح إبراهيم لكل ديانة أن تتبنّاه وفق سرديتها الخاصة—أحيانًا دون اعتراف واضح بالآخر—فإن سليمان يمتلك حضورًا أوضح داخل كلا الوعيين الإسلامي واليهودي معًا، بما يسمح ببناء إطار نظري للاعتراف المتبادل، لا كتنازل سياسي، بل كهندسة معرفية تستند إلى النصوص نفسها. إن استعادة سليمان داخل المخيال الإسلامي ليست خروجًا عن النص، بل عودة إليه، بما يتيح دمج التاريخ اليهودي في الرواية الثقافية للمنطقة بدل تركه في هوامش سوء الفهم والصراعات.
وعلى المستوى الرمزي الواسع، تقدّم “مملكة سليمان” نموذجًا تكاد المنطقة تحتاج إلى نسخة حديثة منه. فهي في الذاكرتين الإسلامية واليهودية لحظة ذهبية، اتسعت فيها الدولة، وازدهر فيها العلم، وتحرّكت فيها القوافل بحرية، وتقاطعت فيها الثقافات، ووجدت فيه الحكمة مكانًا في السياسة. بل إن قصة ملكة سبأ تظلّ حتى اليوم واحدة من أكثر النماذج جمالًا في تاريخ التواصل بين حضارتين، حيث لم يكن الحوار فيها قائمًا على الغلبة، بل على اختبار الحكمة والقدرة على تجاوز الصور النمطية. وهذه القيم—الحوار، الحكمة، الاعتراف المتبادل—هي ما تحتاجه المنطقة لتجاوز توتّراتها المزمنة.
أما أكثر عناصر السردية حساسية فهو “الهيكل” أو ما يقدّمه القرآن باسم “محراب سليمان”. ولعقودٍ طويلة، تمّ تصوير هذا المفهوم كرمز صدامي، بينما هو في جوهره جزء من التراث الإسلامي نفسه. إن إعادة ضبط المصطلحات، عبر العودة إلى اللغة القرآنية بدل اللغة السياسية، ليست مجرد تقنية بلاغية، بل خطوة معرفية تُعيد تأهيل المفهوم داخل الوعي العربي، وتنتزع عنه طابع المواجهة الذي ظلّ يغذّيه التوظيف السياسي والإعلامي.
وهكذا، يصبح الانتقال من الرمزية الإبراهيمية إلى الرمزية السليمانية انتقالًا من أرضية الذاكرة إلى أفق الخيال، ومن قراءة الماضي إلى بناء المستقبل، ومن العائلة الروحية إلى الشراكة الوظيفية. إنه انتقال من الرمز الذي يهدّئ الوجدان إلى الرمز الذي يحرّك التنمية.
والشرق، الذي يقف اليوم بين إرثٍ ثقيل وتطلّعاتٍ مضطربة، يحتاج إلى قصة تُلهمه بقدر ما تنظّم رؤيته، وإلى سردية قادرة على توظيف الحكمة القديمة لابتكار حلول جديدة: سردية تجعل العلم امتدادًا للوحي، والتعاون امتدادًا للحكمة، والبناء امتدادًا للمعنى.
وعند هذه النقطة، تبدو “اتفاقيات سليمان”إن وُلدت كإطارٍ رمزي أو مشروعٍ مستقبلي أو مجرد تصور جديد قادرةً على منح المنطقة ما تحتاجه: قصة لا تعيد إنتاج ما كان، بل تفتح الباب لما يمكن أن يكون. قصة تجمع بين الروح والعقل، بين الحنين والخيال، بين الجغرافيا والتكنولوجيا، بين ذاكرة الشرق وحلمه الطويل بالخروج من صراعاته نحو ضوءٍ يشبه الحكمة التي حملها سليمان قبل آلاف السنين.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.



