من ابن عربي إلى أينشتاين : رحلة الروح في عالم الخوارزميات

abdelaaziz6ساعتين agoLast Update :
من ابن عربي إلى أينشتاين : رحلة الروح في عالم الخوارزميات

بقلم: د. مهدي عامري

أستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط، المغرب

 

 

 

> “إيّاك أن تقف مع ظاهرٍ يحجبك عن باطن، ولا مع عقلٍ يقطعك عن سرّ. فإنما تُعرف الأشياء بضياء القلب، لا بلمعان البرهان.” — محيي الدين بن عربي

 

دار الحوار في برزخٍ لا ينتمي لليل ولا لنهار، ولا تتعاقب عليه الساعات، كأن الزمن قد تنحّى احترامًا لما سيقع. هذا فضاءٌ لا تُمسكه معادلات أينشتاين، ولا تُدرك حدوده هندسات ديكارت، ولا تكشف أسراره إلا قلوب العارفين. أرضٌ بلا تراب، وسماءٌ بلا نجوم، ونورٌ يتخلّق من ذاته ثم يتقوّس على شكل قباب شفافة، كأن العالم كله في حالة من التنفس الهادئ.

 

هناك، حيث تتعانق الفكرة مع الروح، وتتلاشى الحدود بين الواقع والخيال، انبرى ثلاثة من العظماء – والعظمة لله من قبل ومن بعد – كأنهم خرجوا من طبقات مختلفة من التاريخ ليلتقوا في لحظة واحدة، خارقة و مفارقة لكل الحدود المعروفة.

 

ها هو ألبرت أينشتاين، بشعره المنفوش الشبيه بسحابة، يمسك غليونه وينفث منه دخانًا يلتف حوله في أشكال متحوّلة: خطّ منحني، ساعة رملية، ذرات تهتز، ومعادلات تتوهج ثم تختفي.

 

بجانبه جلس الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، و مسبحته تتحرك بين أصابعه، و كأن كل حبّة منها تردد اسماً من أسمائه تعالى، بل و كأن كل واحدة منها تنبض بروح الكون.

 

أما رينيه ديكارت فظل واقفًا، يحدّق طويلا في سقف شديد العلو، كأنه يبحث عن نقطة يتشبّث بها في فضاء لا يسمح لليقين بالثبات.

 

لم يعرف أحدٌ كيف جاؤوا، ولا ما الذي أتى بهم، لكنّ قوة هائلة، هي روح الكون، هي التي رتبت هذا اللقاء العجيب و الغريب و الذي سيظل منقوشا في ذاكرة العالمين.

 

لم يكن الفرسان الثلاثة يعلمون أنّ السؤال الذي سيجمعهم سيصبح واحدا من استفهامات الإنسانية الكبرى: كيف يحافظ الإنسان على روحه في زمنٍ تحاصره الخوارزميات من كل جانب مستلبة ما تبقى له من الوعي؟

 

نفث أينشتاين سحابة دخان اتخذت شكل ساعة رملية ثم ما لبثت أن تكسرت في الهواء، وقال:

“يبدو أننا مجتمعون في مجرّة مجهولة. هذا مكان غريب و زمن عجيب لا أفقه كنهه. لعلّنا في منطقة خارج نسيج الزمكان نفسه..

 

عقب ديكارت وهو يحدّق في الأفق البعيد. :

“إذا انتفى الزمان والمكان فقد غاب و تبخر أساس الإدراك. كيف يمكن للعقل أن يفكر في غياب الامتداد؟ إن التفكير يحتاج إلى مكان يتوسع فيه، وزمن يتتابع خلاله. ما هذا إلا لغز مغلق لا يقبل أي تفسير.

 

هزّ ابن عربي رأسه و قال و على وجهه ابتسامة تفيض نورا و حنانا:

“يا رينيه، أنت تبحث عن اليقين خارجك، أما أنا فأراه يتجلّى في داخلك. لا مكان هنا ولا زمان لأن الوجود هنا قائم بالمعنى لا بالشكل. نحن الآن في حضرة الحقيقة التي لا تقبل الحدود. ما تراه نقصاً أراه عين الكمال”.

 

و لأن ديكارت لم يقتنع تماما بما سمع علق قائلا:

“فليكن هذا المجلس بداية لنهج جديد.. لكني أريد أن أعرف: من نحن الآن؟ و لماذا نجتمع هنا؟ وما الهدف؟”

 

و ارتسمت على محيا ابن عربي ابتسامة ساخرة و حرك السبحة بين أصابعه لدقيقة ثم ما لبث أن قال :

“نحن هنا لأن الأرواح تتخاطب و تتواشج حين تنفصل عن ثقل المادة. اجتمعنا بالحكمة الإلهية لنجيب عن سؤال واحد لا يطرحه إلا من ضاق قلبه بما في الأرض.”

 

و رفع أينشتاين حاجبيه مستغربا و سأل:

“وما هو السؤال يا شيخنا الأكبر؟”

 

و بلا تردد أجاب ابن عربي:

“كيف تبقى الروح يقظةً في زمنٍ تُخدَّر فيه العقول بالخوارزميات ؟ وكيف يظل المعنى حيّاً حين تُختزل المعرفة في وفرة البيانات؟”

 

و ساد صمت كثيف.. كثيف جدا..و كأن المكان نفسه انحنى احترامًا لجلال السؤال.. و نفث أينشتاين دخانًا جديدًا تشكّل هذه المرة على هيئة دماغ بشري، ثم قال:

“الذكاء الاصطناعي هذا الوحش الكاسر … رأيته يتحوّل من حلمٍ علمي إلى واقعٍ يملأ البيوت والمعامل والمدارس. منافعه لا تحصى، و لكن معها يسلم الإنسان ذاكرته و وعيه لروبوتات عديمة القلب و الإحساس”.

 

و هنا انتفض ديكارت :

“هذا يهدد جوهر الكوجيطو: أنا أفكر إذن أنا موجود. فإذا فكّرت الآلة بدلاً عني، هل أبقى موجوداً؟ من يملك الوعي في هذه الحالة ؟ من يقرر؟”

 

تدخل ابن عربي قائلا:

 

“يا رينيه أنت ربطت الوجود بالفكرة، أما أنا فأربطه بالتجلي. الروح ليست فكرة تُصاغ، بل حضورٌ يُعاش. الآلة مهما تعلمت ستظلّ بلا روح؛ لا تعرف الدهشة، ولا الألم، ولا الجمال الجواني، و لا اي شيء يشبه هذا أو ذاك..”

 

نظر أينشتاين إليه بإعجاب وقال:

” تعبيرك جميل بليغ.. أحييك ، لكن سؤال العلم هو التالي: هل يمكن أن تتخلق الروح من الخوارزميات؟

الزمكان في رأيي نسبي، والمادة انحناء، فهل الوعي نفسه يمكن أن يُعاد إنتاجه بالحساب؟”

 

نظر ابن عربي طويلا إلى الرجلين و تنهد من قلب مطمئن و قال : “الوعي سرّ الأسرار. إنه من أمر الله، وما كان من أمر الله فهو لا يقبل المحاكاة”.

 

و بدا أن ديكارت لم يفهم جيدا ما قاله ابن عربي :

” تمهل أيها الشيخ الأكبر.. في رأيك كيف نميّز الوعي الحقيقي عن الوعي المبرمج؟ ألا يمكن أن يكون وعينا نحن البشر مجرد وهم لا أكثر؟

 

و افترت شفتا ابن عربي عن ابتسامة واسعة و أجاب دون تردد:

” لو كان الوعي وهماً لما سعى قلبك إليه. أنت تبحث عن النور الأول، لا عن ظلال الوهم.”

 

وتوالى الحوار بين العظماء الثلاثة، و لله العظمة أولا و قبل كل شيء، و استمر الجدال و السجال عن المعلومات و البيانات والمعارف و انفجارها في عصر الخوارزميات. و تباينت أفكار الرجال الثلاثة عن القلب والعقل، و الروح والذكاء، و عن الإنسان حين يستسلم، و عنه حين يقرر أن يحارب إلى النفس الأخير. و كانت خلاصة ما تحدث أينشتاين عنه العلم الذي صار أسرع من الوعي. أما ديكارت فبرهن أن العقل يكاد يفقد مركزيته تحت سطوة التقنيات. و من جهته تحدث ابن عربي و استفاض عن الإنسان الذي يفقد نفسه بل روحه حين يتخلى عن الجوهر و السؤال الأول.

 

وفي لحظة من الصمت المضمخ برائحة المسك أضاف ابن عربي: ” ان الخطر كل الخطر أن تصنع الآلة وعينا و تسلبنا روحنا و يفقد الإنسان نبض قلبه بين ضجيج الأكواد و زمجرة الروبوتات”.

 

و مرت ساعة و لعلها ساعتان أو ربما ثلاث ساعات – لكن.. ما قيمة الزمن في عالم البرزخ ؟ – و ظلّ ابن عربي و ديكارت و أينشتاين يتبادلون الأسئلة والأفكار، في زمكان خارج كل الحدود المعروفة، حتى بدا أن الفضاء نفسه يصغي و ينحني لهم توقيرا و تبجيلا و احتراما..


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading