*مشروع وطني للأمن المائي: من تحلية البحر إلى إنعاش الجبال والواحات:*

abdelaaziz611 أكتوبر 2025Last Update :
*مشروع وطني للأمن المائي: من تحلية البحر إلى إنعاش الجبال والواحات:*

✍️ بقلم: المهندس عبد الله أيت شعيب
عضو سابق بمجلس النواب المغربي.
ورزازات، في يوم السبت 11 أكتوبر 2025.

*مقدمة: حين يدق العطش ناقوس الوطن:*

تشير الدراسات الوطنية والدولية إلى أن المغرب دخل منذ سنوات مرحلة الندرة المائية البنيوية، حيث لا يتجاوز متوسط نصيب الفرد من الماء 750 مترًا مكعبًا سنويًا، في حين يبلغ المعدل العالمي أكثر من 5000 متر مكعب للفرد.

هذا المعطى المقلق لا يُعبّر فقط عن خلل بيئي، بل عن تحدٍّ استراتيجي يمسّ سيادة الدولة وأمنها المائي والغذائي.

من هنا، بدأتُ — وأنا عضو بمجلس النواب المغربي قبل أكثر من عقد من الزمن — أطرح بإلحاح فكرة إعداد مخطط استراتيجي وطني يهدف إلى تزويد جميع مناطق المملكة بالماء الصالح للشرب والسقي، انطلاقًا من محطات تحلية مياه البحر المقامة على طول السواحل المتوسطية والأطلسية، وربطها عبر قنوات وخزانات عملاقة نحو سلسلة جبال الأطلس، لتتحول هذه المرتفعات إلى خزانات طبيعية عليا تُوزّع المياه نحو مختلف الجهات.

كانت الفكرة — آنذاك — أقرب إلى الحلم، لكنها اليوم أصبحت ضرورة وطنية واستحقاقًا وجوديًا، بعد أن تحوّل الماء إلى قضية سيادة لا تقل أهمية عن الطاقة والغذاء.

*أولاً: الماء… من مورد طبيعي إلى قضية وطنية:*

الماء ليس مجرد عنصر بيئي، بل ركيزة الأمن القومي والاجتماعي.

فالدول التي تُحسن تدبير مواردها المائية، هي التي تُحصّن أمنها واستقرارها.

لقد بنى المغرب خلال العقود الماضية تجربة رائدة في سياسة السدود، جعلت منه نموذجًا إفريقيًا يحتذى به، غير أن تغير المناخ وتواتر سنوات الجفاف جعلا من هذا النموذج، رغم أهميته، غير كافٍ لمواكبة الطلب المتزايد على الماء في المدن والقرى والمناطق الفلاحية. والدليل على ذلك، فاننا لم نتمكن على مدى عقود من تحقيق نسبة ملئ معتبرة لسدودنا التي تفوق طاقتها الاستيعابية ١٨ مليار متر مكعب.

من هنا تبرز الحاجة إلى الانتقال من مرحلة تجميع الماء إلى مرحلة إنتاجه، عبر تحلية مياه البحر واستغلال ثرواتنا الساحلية اللامتناهية لتغذية الوطن كله.

*ثانياً: البحر… خزان استراتيجي لمغرب الغد:*

يمتلك المغرب واجهتين بحريتين تمتدان لأكثر من 3500 كيلومتر، وهو ما يمثل ثروة مائية هائلة لم تُستثمر بعد بالقدر المطلوب.

فإذا تم إنشاء محطات تحلية كبرى في مدن مثل الناظور، الحسيمة، القنيطرة، الدار البيضاء، آسفي، أكادير، وطرفاية، العيون والداخلة، وربطها عبر شبكة مائية وطنية تمتد نحو المدن والمناطق القابلة للفلاحة، وبالخصوص نحو السلاسل الجبلية كسلسلة جبال الأطلس، يمكن للمملكة أن تؤسس منظومة متكاملة للأمن المائي، تعتمد على الخزانات الجبلية لتأمين التوزيع بالجاذبية نحو السهول والواحات، وتقلل من كلفة الضخ والطاقة.

إن إقامة خزانات عليا على القمم الأطلسية ليس فكرة طوباوية، بل حل هندسي متكامل قادر على تأمين المياه طيلة السنة، وضمان الإنصاف المائي بين الجهات.

حينها يصبح البحر مصدر الحياة، والجبل رئة التوزيع، والسهول والواحات ثمارًا لوحدة الجغرافيا والمصير.

*ثالثاً: العدالة المائية… أساس التماسك الوطني:*

العدالة في توزيع الماء هي الوجه الحقيقي للعدالة المجالية.

فكما لا ينبغي أن يُحرم أي مواطن من حقه في التعليم أو الصحة، لا يجوز أن يُحرم من حقه في الماء، وهو الحق الأول الذي تقوم عليه الحياة.

إن تزويد مناطق الواحات، والجنوب الشرقي، والمناطق الجبلية بالماء المحلى القادم من البحر، سيُحدث تحولًا تنمويًا عميقًا:

* سيُنعش الفلاحة المستدامة، ويُعيد الحياة إلى القرى المهددة بالنزوح، ويُكرّس مفهوم العدالة الترابية الحقيقية.
* حين يتذوق أبناء الأطلس وتافيلالت ودرعة مياه البحر المحلاة، سيشعرون أن وطنهم واحد في عطائه وإن اختلفت تضاريسه.

*رابعاً: الإرادة السياسية… مفتاح الحلم الممكن:*

كل المشاريع العظيمة تبدأ بفكرة، لكنّ الأفكار العظيمة لا تُزهر إلا إذا سقتها الإرادة السياسية الشجاعة.

إن هذا المشروع لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى قرار سيادي حازم يعلن الماء قضية وطنية كبرى، ويجعل من “مشروع الربط المائي الوطني” برنامجًا استراتيجياً طويل المدى، تُسخَّر له الإمكانيات التقنية والمالية والبشرية.

لقد أثبت المغرب، تحت القيادة الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، أنه قادر على إنجاز مشاريع كبرى في النقل والطاقة والاتصالات، فكيف لا ينجح في بناء شريان مائي وطني يربط البحر بالجبل، والحياة بالاستقرار؟

*خامساً: نحو نهضة مائية مغربية:*

إن تحقيق هذا المشروع يتطلب رؤية متكاملة تشمل:

* اعتماد الطاقة المتجددة لتقليل كلفة التحلية والنقل.

* تشجيع البحث العلمي في مجالات الهندسة الهيدروليكية والتخزين الجبلي.

* تطوير منظومة الحكامة المائية على المستويين الجهوي والوطني.

* نشر ثقافة التربية المائية في المدارس والجامعات.

بهذه المقومات، يمكن للمغرب أن يحقق ما أسميه بـ *“*النهضة المائية المغربية المستدامة”*، التي تجعل من الماء ليس موردًا محدودًا، بل عنصر قوة واستدامة للأمة.

*خاتمة: من الحلم إلى الواجب الوطني:*

كم سيكون ذلك جميلاً وعادلاً، حين تتدفق مياه البحر العذبة من السواحل إلى الجبال، ومن الجبال إلى السهول والواحات، حاملة معها رمزية الوحدة الوطنية في أبهى صورها.

إنه مشروع ليس مستحيلًا، بل حلم قابل للتحقيق، بل واجب وطني يجب أن يُدرج ضمن الخيارات الاستراتيجية العليا للدولة.

فمن لا يملك قراره المائي، لا يملك قراره السيادي.

والمغرب، وهو أرض العزيمة والريادة، قادر على أن يحوّل البحر إلى حياة، والحلم إلى حقيقة تُروى للأجيال القادمة.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading