بقلم: توم فاغنر
ترجمة : محمد اكن
في كل مرة تُذكر فيها غزة، تُسارع بعض الأصوات داخل إسرائيل وخارجها إلى إطلاق اتهام ثقيل: “إسرائيل تجوّع سكان غزة”. لكن، وقبل أن نركن إلى الشعارات أو نغرق في موجة الاتهامات المتبادلة، علينا أن نميز بين الجوع كواقع إنساني مؤلم، و”التجويع” كسياسة متعمّدة وممنهجة.
نعم، من المرجح جدًا أن هناك جوعًا حقيقيًا في غزة. مشاهد الفوضى عند الشاحنات، وانعدام التوزيع المنظم، وصعوبة وصول المساعدات إلى الفئات الأكثر هشاشة، كلها مؤشرات على أزمة إنسانية حادة. لكن هذا شيء، وادعاء وجود سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تجويع السكان شيء آخر تمامًا.
الوقائع على الأرض أكثر تعقيدًا من الروايات المتداولة في وسائل الإعلام أو منصات التواصل الاجتماعي. الشاحنات التي تدخل غزة محمّلة بالمساعدات لا تجد منظومة توزيع واضحة. السائقون يفرغون حمولاتهم تحت التهديد، ويغادرون مسرعين، بينما يتدافع السكان لأخذ ما يستطيعون حمله. في خضم الحرب والفوضى، تُدفن مفاهيم “العدالة الاجتماعية” و”التوزيع العادل”، ويغيب صوت الضعفاء.
أما ما يُسمى بـ”سياسة التجويع”، فلا يوجد أي قرار رسمي، ولا توجيه من الكنيست أو الحكومة أو قيادة الجيش يدعم هذا الادعاء. على العكس، هناك آلية إنسانية واضحة تديرها إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة، هدفها إدخال المساعدات وتوزيعها عبر قنوات لا تمر بحماس، حمايةً للمساعدات وضمانًا لوصولها للمدنيين.
وإن أردنا الموضوعية، فالحديث عن “التجويع” يُفترض أن يقترن بدلائل ملموسة: قرارات حكومية، أو خطط عسكرية، أو تصريحات علنية. لا شيء من هذا موجود. بل على العكس، هناك فرق إسرائيلية على الأرض، مسلحة وممولة ومخصصة فقط لضمان مرور قوافل الغذاء، وحمايتها من الفوضى أو النهب.
إذن لماذا يصرّ البعض على استخدام مصطلح “تجويع” بدلًا من “جوع”؟
الجواب يتفاوت: البعض يفتقر للمعلومة الدقيقة، البعض الآخر يذوب في مستنقع الاستقطاب السياسي إلى درجة أنه لم يعد يرى الحقيقة إلا عبر عدسة أيديولوجية، فيما هناك من يتبنّى خطابًا تحريضيًا ممنهجًا، بعضهم لا يعيش حتى داخل إسرائيل، وإنما يتحدث باسمها من طهران أو جنوب لبنان أو اليمن.
هؤلاء لا يهدفون فقط إلى شيطنة إسرائيل، بل يسعون لخلق مبرر شرعي في نظر جمهورهم لاستخدام العنف. “إذا كانت إسرائيل تمارس التجويع”، يقولون، “فمن حقنا قتالها بكل الوسائل”. هكذا تتحول الدعاية إلى سلاح، ويُبرر الدم باسم “الخبز”.
في خضم هذه الفوضى، علينا أن نتساءل بوضوح:
إذا كانت هناك مساعدات تدخل غزة، وآليات لتوزيعها، وميزانيات مرصودة لذلك — فهل فعلاً يمكننا الحديث عن سياسة “تجويع”؟ وإذا لم تكن هذه الجهود كافية، فهل نحتاج إلى تصويبها وتطويرها، أم إلى هدمها إعلاميًا لخدمة سرديات مشبوهة؟
في النهاية، الجوع مأساة، ولا أحد ينكرها. لكن “التجويع” تهمة تتطلب دليلًا. وبين المأساة والافتراء، هناك فرق كبير، ليس فقط في اللغة… بل في النية أيضًا.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

