محمد اكن يكتب:
يظل مفهوم “الشهادة” من أكثر المفاهيم حضورًا في الذاكرة الإسلامية، إذ ارتبط عبر القرون بالروحانية وبالمعاني السامية للتضحية. لكن هذا المفهوم، حين يُختزل في زاوية واحدة تُقصي الاعتبارات الوطنية، يتحوّل إلى أداة أيديولوجية قابلة للتوظيف السياسي والعاطفي.
لقد صار السؤال: “من هو الشهيد؟” ساحة جدل واسع. فهناك من يربطه فقط بالانتماء الديني، وهناك من يوظفه لخدمة قضايا عابرة للحدود، بينما يرى اتجاه آخر أن التضحية لا تُعتبر شرعية إلا إذا انسجمت مع المصلحة العليا للوطن.
منذ صدر الإسلام، ارتبطت الشهادة بالموت في سبيل الله دفاعًا عن الدين وجماعة المسلمين. غير أن هذا المعنى تعرّض لتأويلات متناقضة على مرّ التاريخ، وجرى توسيعه ليشمل من يموت في قضايا سياسية أو عسكرية قد لا تخدم استقرار الدولة ولا مصلحة الأمة.
ومع بروز الدولة الوطنية الحديثة، صار من الضروري إعادة قراءة هذا المفهوم. فالدولة، باعتبارها الكيان الضامن للأمن والسيادة، لا يمكن أن تسمح باحتكار معنى التضحية أو توجيهه بما يخدم مشاريع غير وطنية. والمثال المغربي هنا واضح: حين تمكنت القوات المسلحة الملكية من تحييد أحد العناصر المعادية بطائرة مسيّرة متطورة، لم يُعتبر ذلك “شهيدًا”، رغم كونه مسلمًا، بل عُدّ انتصارًا للسيادة الوطنية.
المفارقة أن بعض التيارات تقلب الموازين حين يتعلق الأمر بشخصيات مثل “أبو عبيدة” أو “إسماعيل هنية”: فإذا رأى أحد أن هؤلاء لا يمكن أن يُصنّفوا شهداء بمنطق وطني، وُوجه بتهم الكفر أو نقص المروءة، وكأن الوطنية في هذه الحالة تصبح تهمة لا فضيلة.
هذا يكشف أن النقاش ليس دينيًا بحتًا، بل هو صراع على تأويل الرموز وتوظيفها سياسيًا. وغالبًا ما يُستعمل الدين كأداة لإقصاء الأصوات التي تُذكّر بأولوية الوطن ومصالحه.
إن فكرة “الأمة الإسلامية” كبديل عن الدولة الوطنية تثير إشكالات عملية: من يحدد مصلحة الأمة؟ وهل تُقدّم قضايا خارجية على استقرار الدولة الوطنية؟ التجارب أثبتت أن تجاهل الأولويات الوطنية لصالح شعارات عابرة للحدود يقود إلى الفوضى والخسائر.
لهذا، فإن المطلوب ليس التخلي عن البعد الروحي للشهادة، بل تأطيره في رؤية عقلانية تجعل المصلحة العليا للدولة هي المعيار الحاسم. فالشهادة لا تُمنح بقرارات حزبية أو عبر الإعلام، بل تُترجم في الواقع إلى حماية للوطن وتعزيز لسيادته واستقراره.
إن النقاش حول الشهادة يعكس عمق التوتر بين قدسية الدين وأولوية الانتماء الوطني. وبينما يسعى البعض إلى احتكار هذا المفهوم وتسييسه، تفرض الدولة الوطنية أن يكون معيار التضحية هو الولاء للوطن أولًا وأخيرًا.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


