إلغاء البحوث الجامعية بالمغرب: ضرب لعمق الجامعة وتهديد لمستقبل البحث العلمي

abdelaaziz64 سبتمبر 2025Last Update :
إلغاء البحوث الجامعية بالمغرب: ضرب لعمق الجامعة وتهديد لمستقبل البحث العلمي

الباحثة : نعيمة عتماني

أثار القرار القاضي بإلغاء بحوث الإجازة والماستر وتعويضها بتداريب ميدانية موجة من النقاش في الأوساط الجامعية والأكاديمية، لما يحمله من دلالات تمس جوهر الوظيفة الأساسية للجامعة. فهذه الأخيرة لم تُنشأ لتكون مجرد مؤسسة لإعداد الطلبة للاندماج السريع في سوق الشغل، وإنما لتقوم بدور مركزي في إنتاج المعرفة وصياغة الأسئلة الكبرى التي تواجه المجتمع، وهو ما يجعل البحث العلمي ركيزة أساسية في بنيتها، وشرطاً ضرورياً لتمييزها عن مؤسسات التكوين المهني والتقني.
يمثل البحث الجامعي في مختلف مستوياته أكثر من مجرد تمرين أكاديمي ينتهي بتقديم مشروع مكتوب، فهو مسار تربوي وفكري متكامل يمكّن الطالب من تعلم مناهج البحث، وصياغة الإشكاليات، وتنمية التفكير النقدي، والتحليل المنهجي للمعطيات، واقتراح البدائل. وبدون هذه الممارسات، يفقد التكوين الجامعي عمقه العلمي والمعرفي، ويتحول إلى عملية نقل آلي للمعارف الجاهزة دون القدرة على إنتاج معرفة جديدة.
وتكمن خطورة إلغاء بحوث الإجازة والماستر في احتمال إفقار التجربة الجامعية وإضعاف الصلة بين الطالب والبحث العلمي منذ المراحل الأولى لمساره الأكاديمي.
فالتداريب الميدانية، رغم أهميتها في اكتساب الخبرات العملية والتأهيل المهني، لا يمكن أن تحل محل البحث العلمي، بل يجب أن تأتي مكمّلة له. فالتكوين الجامعي المتوازن هو الذي يجمع بين البعد النظري الذي يغذي ملكة التفكير النقدي والإبداع، و البعد التطبيقي العملي الذي يهيئ الطالب لخوض غمار الحياة المهنية.
وفي هذا السياق، تؤكد التجارب الدولية الرائدة أن الجمع بين البعدين البحثي والتطبيقي هو الخيار الأنجع. ففي الجامعات الأوروبية والأمريكية، يشكّل البحث العلمي العمود الفقري للتكوين منذ المراحل الأولى، حيث ينجز الطلبة مشاريع بحثية متدرجة العمق، غايتها تدريبهم على امتلاك أدوات البحث والمنهجية العلمية، لا مجرد إنتاج معرفة جاهزة. وفي ألمانيا على سبيل المثال، تمثل الجامعة فضاءً مزدوج الوظيفة: إنتاج المعرفة عبر مراكزها البحثية، وتأهيل الطلبة مهنياً عبر شبكة واسعة من التداريب والشراكات مع المؤسسات.
أما في كندا، فقد ابتُكر نموذج ” التعلم التعاوني” (Co-op) الذي يزاوج بين البحث الأكاديمي والتدريب المهني في صيغة متناوبة، وأثبت فعاليته في تخريج أجيال تجمع بين العمق المعرفي والقدرة التطبيقية.
هذه النماذج الدولية توضح أن قوة الجامعة تكمن في حفاظها على التوازن بين البحث العلمي والتطبيق العملي، لا في التضحية بأحدهما لصالح الآخر. فالتداريب الميدانية ضرورية لتأهيل الخريجين، لكنها تفقد قيمتها إذا لم تكن مسنودة بعمق معرفي ومنهجية بحثية تمكّن الطالب من الإبداع والتجديد.
إن ما يحتاجه التعليم الجامعي في المغرب ليس التخلي عن البحوث الجامعية، وإنما إصلاح طرق إنجازها وتأطيرها، وربطها أكثر بقضايا المجتمع وتحولاته، حتى لا تظل شكلاً بلا مضمون. كما أن تطوير التداريب الميدانية وإعطائها مكانة وازنة داخل المسار الجامعي خطوة ضرورية، شرط ألا تكون على حساب البحث العلمي.
إن البحث العلمي يشكل الركيزة الأساسية لبناء مجتمع المعرفة، وتعزيز القدرات الوطنية على الابتكار، وترسيخ مكانة المغرب في الساحة العلمية الدولية، باعتباره أداة استراتيجية للتنمية المستدامة والنهضة الحضارية. ولضمان استمرارية هذا الدور، لا بد من تبني مقاربة تكاملية وشاملة، تربط بين نتائج البحوث الجامعية ومتطلبات المجتمع واحتياجاته الفعلية، مع تعزيز البرامج التدريبية الميدانية التي تمنح الطلبة خبرة عملية متينة، تمكنهم من توظيف المعرفة النظرية في سياقات تطبيقية حقيقية. إن الجمع بين العمق المعرفي والقدرة التطبيقية لا يحفظ فقط رسالة الجامعة، بل يخرج أجيالاً قادرة على التفكير النقدي، والابتكار المستمر، والمساهمة الفاعلة في صياغة سياسات وطنية فاعلة ومشاريع تنموية مستدامة. وبذلك، يظل البحث العلمي ركيزة استراتيجية لا غنى عنها لأي مشروع نهضوي حقيقي، وهو الضامن الأساسي لقدرة المغرب على مواجهة تحديات المستقبل، والارتقاء بمكانته العلمية والاقتصادية والاجتماعية، بما يحقق التنمية الشاملة ويعزز دوره الفاعل على المستوى الإقليمي والدولي.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading