محمد اكن حين يكتب: الإعلام المغربي: حديقة الدراهم وساحة السفاهة

abdelaaziz624 أغسطس 2025Last Update :
محمد اكن حين يكتب: الإعلام المغربي: حديقة الدراهم وساحة السفاهة

ماذا تفعل حين تجد نفسك وسط القطيع؟

في عام 2007، قبل الأزمة المالية العالمية، كان جون بورغيس، مستثمر بارع في نيويورك، يراقب السوق. وبينما الناس يشترون العقارات كما يشترون الفول السوداني، جاءه صبي من مقهى وقال: «من لا يشتري سيخسر». عندها ابتسم بورغيس وفهم أن القطيع بلغ الذروة، فانسحب بهدوء. بعد أسابيع قليلة، انهار كل شيء، ولم ينجُ سوى من فهم إشارات “القطيع”.

أما عندنا في المغرب، فالقطيع لا ينهار، بل يتكاثر. اليوم نعيش زمن الإعلاميين الذين يظنون أن شهادة «السادس ابتدائي» كافية لتقديم «تحليل استراتيجي». هؤلاء المراسلون، الذين يخلطون بين «الفاعل والمفعول به» كما يخلطون بين الخبر والإشاعة، صاروا يتصدرون المنابر، ويبيعون الوهم بالدارجة الثقيلة، مرفوقة بابتسامة من النوع الذي لا يفهم الفرق بين «الدستور» و«المسطرة».

الكلمة عندهم سلعة، والتغطية الإخبارية مهرجان مدفوع، والاستقلالية مجرد شعار على ورق. بل إن بعضهم يظن أن الصحافة هي «فيديو لايف» من مقهى شعبي، مع كثير من الأخطاء اللغوية التي لو سمعها ابن خلدون لطلب اللجوء إلى السويد.

في الإعلام الرقمي، يظهر الطين كله. تجد «المراسل المحلل» الذي لا يعرف كيف يكتب عنواناً دون ثلاث أخطاء إملائية، لكنه يشرح لك الاقتصاد الدولي كأنه «آدم سميث». آخرون يوزعون «التحليل الجيوسياسي» وهم بالكاد اجتازوا مادة الجغرافيا في الإعدادي. والكارثة أن الجمهور يصفق، ويتابع، ويقتنع، كأن الجهل صار مرجعاً علمياً جديداً.

الانحطاط لم يعد مهنياً فقط، بل صار ثقافياً وأخلاقياً. الإعلام الذي كان يفترض أن يرفع الوعي، صار يرفع ضغط الدم. الصحفي الذي لا يفرق بين «المبتدأ والخبر» صار يبيع نفسه كمثقف موسوعي. المواطن بدوره يُقنع بأن التفاهة تحليل، وأن الابتذال بساطة، وأن الجهل «قرب من الشعب».

أما الصحفيون الجادون، من قرأوا كتاباً أو اثنين في حياتهم، فهم مطاردون مثل طيور نادرة في غابة مليئة بالغربان. كل تحقيق مستقل يُدفن، وكل رأي حر يُقمع، وكل صوت صادق يُستبدل بصوت مراسل يكتب «الجزيرة» بالزاي ويصرّ على أنه «خطأ مطبعي».

الإعلام المغربي كان يمكن أن يكون مدرسة للوعي، لكنه تحول إلى «سوق أسبوعي» حيث الدراهم تشتري كل شيء: المقال، والتحليل، وحتى الضمير. المواطن أمام خيارين: إما أن يبتلع الجرعة اليومية من الغباء الإعلامي، أو يبحث عن الحقيقة في قنوات أجنبية.

والسؤال المحير: هل تختار أن تكون مثل بورغيس، منسحباً قبل أن يبتلعك الطوفان، أم تبقى جزءاً من قطيع يقوده مراسل بالكاد يعرف أن إفريقيا ليست دولة؟

الفقاعة اليوم ليست في العقار ولا في المال، بل في العقول. في الإعلام المغربي، من بقي وسط القطيع خاسر في الدراهم وفي الذكاء وفي الكرامة.

هذا الإعلام لم يعد صوت المجتمع، بل صدى الجهل، ومسرح

الدراهم، وساحة السفاهة.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading