✍️ د. مهدي عامري
عجبًا! كيف وصلنا إلى هذا الدرك من الغفلة؟ كيف انقلبت الموازين، وانعكست القيم، حتى صار الانحلال حرية، والتفاهة فنًّا، والسقوط صعودًا؟ يقشعر بدني حين أرى حشودًا من الشباب تصطفّ بالآلاف، بل بمئات الآلاف، لحضور حفل «رابور» لا يملك من الموهبة إلا الضجيج، ولا نصيب له من الرسالة الفنية إلا التمرّد الفارغ، ولا همّ له إلا زيادة عدد المتابعين على “تيك توك” و”إنستغرام”. أشعر بالصدمة، بل بالحزن العميق، بل بالخزي، حين أرى شباب أمتي التي أنجبت في الماضي عظماء الفكر والنضال والفن المناضل، وهم يُصفّقون لصعلوكٍ يلبس ثيابًا ممزقة، ويتفاخر بتعاطي المخدرات، ويمجّد الإباحية، ويستهزئ بالدين، ويزرع اللامبالاة في القلوب.
يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم، كيف صار الراب – ذلك الفن الأصيل، المُلتزم في جذوره، الخارج من رحم الألم والمعاناة – مجرّد وسيلة لترويج الفساد، وإلهاء العقول، وسلخ الأجيال من قيمها؟ تعالَ معي، أيها القارئ النبيل، لنتأمّل سويًّا، لا لنُدين الأشخاص، بل لنفكّك المنظومة التي تنتج هذا العبث، وتسوّقه على أنه “تطور”، في حين أنه تدهور بكل ما في الكلمة من معنى.
الراب ظهر في أمريكا، وكان في أصله صوتًا للضعفاء، وصرخةً ضد الظلم، ومناهضةً للتمييز، ودعوةً للحرية الحقيقية، التي لا تنفصل عن الكرامة الإنسانية. لكنه، ويا للأسف، حين استقرّ في أحضان بعض المجتمعات، ومنها هذا “البلد الأمين”، جرى تفريغه من مضمونه، وشُحن بفيروسات الاستهلاك، والسطحية، والتقليد الأعمى. فتحوّل من سكة النضال إلى مخطط الانحلال، ومن منصة الوعي إلى مسرح العبث.
والله إني لأعجب من أولئك المسؤولين وكبار السياسيين الذين يفتحون أبواب المهرجانات على مصراعيها لأمثال هؤلاء، ويموّلون حفلاتهم بالملايين، من أموال و ضرائب الشعب، في حين يُغلق باب الدعم في وجه الفنان الملتزم، والمفكر الصادق، والكاتب الحر. فهل نعيش زمنًا تُكرَّم فيه التفاهة وتُهمَّش فيه الكفاءة؟ هل بتنا نكافئ من يُدمّر الذوق العام، ونحاصر من يحاول إنقاذ ما تبقّى من المعنى؟
يا رعاة التفاهة والانحلال، اتقوا الله في هذا الوطن. إنكم لا تُخرّبون الفن فقط، بل تقتلون الأجيال في مهدها. أنتم تزرعون في أبنائنا الإدمان بدل الإبداع، وتروّجون للانحلال بدل الاحترام، وتدفعونهم إلى هوّة الاستهلاك لا إلى أفق الإنتاج. كفى تواطؤًا! كفى صمتًا! كفى خيانةً للضمير!
والآن تعالَ معي لنطرح سؤالًا محوريًّا: ما هي القيم التي يدافع عنها “الرابور” الذي استُقبل في مهرجان اختلال الموازين بحضور قرابة ثلث مليون متفرّج؟ هل دعا إلى مقاومة الجهل؟ هل تضامن مع فلسطين؟ هل مجّد العلم أو حفّز على التفكير؟ لا شيء من هذا. فقط فوضى، ألفاظ ساقطة، حركات مسمومة، إيحاءات جنسية، وكراهية مستترة لكل ما هو قيمي ونبيل. إنه فنّ – بل عفن – يُراد له أن يُصبح الدّين والديدن الجديد لأبنائنا، بحيث يُلقَّنون طقوس التمرّد الأجوف، ويُزرَع فيهم الحقد على كل ما له صلة بالهوية والانتماء.
هذا ليس تحاملًا، بل هو نداءٌ من القلب، ودفاعٌ عن ذاكرة هذا الوطن الجريح، وعن الثقافة الأصيلة، وعن روح الأمة التي قاومت باللحن والكلمة، والتي نريد لها أن تواصل المقاومة لا أن تستسلم تحت وقع “التريند”.
إن ما يحدث اليوم هو نوع من الإبادة الرمزية، لا بالرصاص بل بالإيقاع. فبدل أن نبني مسارح تحتضن الشعراء والكتّاب والمسرحيين، نشيد فضاءات تُضاء فيها الأنوار على من يصرخون بكلمات فارغة، تستلب العقول بدل أن تنيرها. ونهمّش الفنان الذي يوقظ القيم، ونرفع من شأن من يُشيع ثقافة الهوان.
إني لأشعر بالحنق حين أستحضر أسماء كبار الفن المغربي، أولئك الذين غنّوا لفلسطين، وللمستضعفين، وللمهمّشين، وكرّسوا حياتهم لتربية الذوق العام. أين نحن من عبد الوهاب الدكالي، وناس الغيوان، والعربي باطما، والإخوان ميگري، وأحمد الطيب العلج، ونعمان لحلو؟ أليس من العار أن يُرمى تراثهم في الظل، ويُقدَّم العبث على أنه الجمال الجديد؟
إنها لحظة مراجعة شاملة، لا للفن فقط، بل لمفهوم “الثقافة” و”الحدث” و”النجاح” في زمن يتغيّر فيه كل شيء، إلا ضمير الإنسان الذي اختار أن يقاوم.
لا نريد قتل الفن، بل إنقاذه.
لا نحارب الراب، بل ندعو إلى غربلته والوفاء لروحه.
لا نهاجم الشباب، بل نحثّهم على ألا يكونوا وقودًا في معركة تدمير الذوق.
إن معركة القيم اليوم لا تحتاج إلى البنادق، بل إلى الوعي المشتعل، و المثقفين الصادقين، و الفنانين الشجعان. نحتاج إلى العودة إلى الأصل، إلى جوهر الفن، إلى الإنسان، لا إلى تشييئه وتحويله إلى سلعة تُباع باللايكات والتذاكر.
يا مغرب، إلى أين تمضي؟ أحقًّا نسيتَ من أنت؟ أما زلتَ تفتّش عن ذاتك في مرايا الآخرين، فتقلّد بلا روح، وتحتفل بلا غاية، وتُسرف في الفرح الباهت على حساب الفكر والجمال والحق؟ أليس الأجدر أن نعيد الاعتبار لمن يصنعون الحياة بالحرف الصادق، لا لمن يُفنّدونها بالصوت الفارغ؟
إني أتذمّر كلّما تذكرت أن أبناءنا اليوم يتعلمون من “اليوتيوبر” و”الرابور”، لا من المعلم، ولا من الكاتب، ولا من الفنان الملتزم. أليس من حقنا أن نحزن؟ أليس من واجبنا أن نرفض؟ أليس من أقدس مسؤولياتنا أن ننهض، وألا ننتظر من يُنقذنا؟
فيا من تقرأ هذه الكلمات، تعالَ معي إلى جبهة الدفاع عن المعنى، فلعلّنا نُبقي شعلة النور مشتعلة في زمن الظلام.
هيا! و لنقاوم بالكلمة، بالصوت الحرّ، وبالفعل المسؤول.
اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.