محمدْ سعدْ عبدِ اللطيفْ
عادَ الفتى مهرانْ بعد رحلةٍ طويلةٍ يحلمُ بالجنةِ والوهمِ والخيالِ التي رسمها في ذهنهِ ولمْ يعلمْ أنَ هناكَ ماضي وطواحينِ الهواءِ سوفَ تصارعهُ ؟ ! . ولكنْ كانَ الماضي يلاحقهُ وعاداتِ المجتمعِ الريفيِ . تقفَ عائقا مانعا لطموحةٍ أنْ يصبحَ شخصيةً عامةً داخلَ المجتمعِ . وكانتْ أقربَ الطرقِ التي تدورُ في ذهنهِ الترشحِ على مقعدِ البرلمانِ في دائرتهِ الانتخابيةِ وانْ المالِ السياسيِ أصبحَ عاملاً مهما في الصعودِ والفوزِ ، ويصبح منافسا لاحتقارِ هذهِ المناصبِ للعائلاتِ الكبيرةِ في المجتمعِ الريفيِ . بدأَ يعدْ العدةَ ولكنَ هناكَ عقبةٌ وحيدةٌ هيَ أنْ يبحثَ كما يبحثُ كلُ المصريينَ عنْ أصولهمْ وعنْ الآثارِ . ويحملَ اسمُ عائلةٍ كبيرةٍ وهيَ ظاهرةٌ انتشرتْ في كلِ أرجاءِ البلادِ البحثِ عنْ الهويةِ ! ! فمنْ المعروفِ في صعيدِ مصرَ هناكَ نظامٌ يختلفُ عنْ وجهٍ بحريٍ في أسماءِ عائلاتٍ كبيرةٍ تمتدُ في جميعِ محافظاتِ مصرَ فاختارَ اسمُ عائلةٍ مشهورةٍ وألصقَ اسمهُ بها في اسمِ الشهرةِ . وبدأَ يبحثُ عنْ أقاربِ أمةٍ منْ داخلِ المجتمعِ الذي نشأَ فيهِ . وبذلكَ يصبحُ لهُ هويةٌ يرتكزُ منها داخلَ المجتمعِ فهوَ يملكُ المالُ وأصبحَ لهُ هويةُ واسمُ عائلةٍ كبيرةٍ . وأخوال . ولكنْ يلاحقهُ الماضي في عيونِ جيلٍ وأجيالٌ في نظرتهمْ لهُ . حيثُ نشأَ في بيئةٍ فقيرةٍ شمالَ الدلتا منْ أبِ منْ صعيدِ مصرَ وأمِ فلاحةٍ منْ بحريٍ . وظلَ الأبُ متمسكا بأصولهِ ولهجتهِ داخلَ المجتمعِ الذي تزوجَ منهُ بكلِ احترامِ منْ أهلِ العزبةِ الصغيرةِ ماتَ الأبُ والأمُ فأصبحَ وحيدا ” عاشتْ ؛ ” أمُ مهرانْ ” على تربيةِ ابنها الوحيدِ تحملهُ على أكتافها حتى بلغَ السابعةَ منْ عمرهِ . فشلٌ في دراستهِ في المرحلةِ الإعداديةِ . فقررَ السفرُ خارجَ الوطنِ . وكانَ التفكيرُ في الهجرةِ قليلاً جدا ، وكانتْ الأحوالُ المعيشيةُ لكثيرٍ منْ الناسِ بسيطةً . فعادَ ” الفتى مهرانْ ” في ثوبٍ آخرَ منْ بلادِ الإفرنجِ والخواجاتِ خواجةً في شكلهِ وملامحهِ وملابسةٍ وغيرَ منْ نظامهِ الذي تربى عليهِ . بدأَ يبحثُ عنْ شريكةٍ لهُ في حياتهِ شروطهُ يبحثُ عنْ عائلةٍ كبيرةٍ يربطُ حياتهُ بهمْ فهوَ مهما كانَ غريبا داخلَ المجتمعِ ؛ فالمالُ استطاعَ أنْ يحصلَ منهُ على زوجةٍ منْ أسرةٍ كبيرةٍ لها سمعتها في المجتمعِ ؟ ! بعدٌ سنواتٍ طويلةٍ عادَ ” الفتى مهرانْ ” منْ غربتهِ الطويلةِ التي قضاها خارجَ الوطنِ وشيدَ قصرا لهُ . وكانتْ زيارتهُ قصيرةً تقتصرُ على زيارةٍ اسرتهُ وهمومَ الحياةِ وتربيةِ ومستلزماتِ احتياجاتِ أسرتهِ وكانَ يعيشُ صراع داخليٍ على أنْ يصبحَ يوما منْ أغنياءِ القومِ ويحققُ رغبتهُ في تفكيرهِ العقيمِ ، المتأصلَ في المجتمعِ كما جسدها الفنانَ ( سعيدْ صالحْ ) في مسرحيةٍ ” هالو شلبي ” أنتَ ابنُ مين في مصرَ ” حتى ولوْ لبس لبأسٍ آخرَ وحملَ اسما آخر . فسوفَ يعيشُ حياةَ أهلِ ” التيهِ ” وهذا يذكرني بمشهدِ لسعيدْ صالحٍ في المسرحيةِ عندما كانَ يقولُ ” استيكْ منةً فيهِ ” ليصبحَ رجل آخر ومميزٌ عنْ أهلِ النجعِ الذي تربى داخلةً ! ! ليعيشَ الفتى مهرانْ جنةَ الوهمِ والخيالِ التي رسمها في ذهنهِ . مثلٌ الكثيرِ في خوضِ معاركِ داخلِ المجتمعِ للبحثِ عنْ دورِ وأسهلِ الطرقِ أهداهُ تفكيرهُ الترشحُ حتى ولوْ على منصبِ عمدةِ كفرٍ أوْ عزبةٍ فقدمَ ترشيحهُ للبرلمانِ ! ! أرادَ أنْ يكسرَ القاعدةَ المعمولَ بها ويعترضُ على كلمةِ نائبِ الدائرةِ في مؤتمرٍ شعبيٍ وسطَ حضورٍ شعبيٍ وجماهيريٍ ومنْ قياداتٍ شعبيةٍ وتنفيذيةٍ وكانَ الغرضُ انتباهَ كلِ الحضورِ منْ هوَ . ؟ فكادَ المؤتمر يفشلُ بسببِ اعتراضٍ على كلمةِ نائبِ الدائرةِ باعتبارِ ذلكَ موقفا بطوليا في نظرةٍ ومدخلٍ للترشحِ . ؟ المهمَ أنَ الفتى مهرانْ كانَ جزءا منْ ظاهرةٍ منْ الباحثينَ عنْ هويةٍ ؛ الذي تفشى في مختلفِ شرائحِ المجتمعِ ، وأيضا الخرافاتُ والهوسُ في كلِ المجالاتِ وأخطرها الدينيُ اللذينِ أصبحا منْ السماتِ المنتشرةِ بشكلٍ لمْ يسبقْ لهُ مثيلٌ في بلادنا المصريةِ ؟ !
استوقفني التفكيرُ قليلاً منذُ أسابيعَ عندما قرأتْ لصديقي الدكتورِ / رشدي عوضْ دميانْ ” بوست عنْ الكاتبِ الإسبانيِ / ميجيلْ دي سيرٌ انتسْ ” تعليقا عنْ الروايةِ العالميةِ . . . ” دونْ كيشوتْ ” ، وطواحينُ الهواءِ تحتَ عنوانٍ ؛ – طواحين الهواءِ ، وأنا ؟ منْ الواضحِ أنَ هذا العنوانِ الغريبِ لهذا الطرحِ ” البوستْ ” عنْ ” دونْ كيشوتْ ” ربما يدعو للتعجبِ ، بالأكثرِ بسبب الربطِ بينَ ” دونْ كيشوتْ ” الذي كانَ يحاربُ طواحينَ الهواءِ ، وبينَ أنْ أتخيلَ نفسي في مكانهِ ، ليسَ لمحاربةِ الطواحينَ كما جاءَ في هذهِ الروايةِ روايةً ” دونْ كيشوتْ ” : وهي منْ روائعِ الأدبِ العالميِ ، وهيَ عنْ رجلٍ بورجوازيٍ ؛ تعدى الخمسينَ منْ العمرِ ، منْ أسرةٍ متوسطةٍ الحالِ ، يعيشَ في إحدى القرى الأسبانيةِ في خلالِ القرنِ السادسِ عشر . وبينَ الفتى مهرانْ ؛ – فكلاهما يصارعُ الماضي . منْ وجهةِ نظرِ الآخرِ داخلَ المجتمعِ ، وكانَ ” كيشوتْ يقرأُ الكثيرُ عنْ حياةِ الفروسيةِ لدرجةِ أنهُ كانَ يفكرُ في أنْ يعيدَ سماتِ هذهِ الحياةِ بكلِ ما كانَ للفرسانِ فيهِ منْ أدوارٍ كبيرةٍ في نشرِ العدالةِ ومساعدةِ الضعفاءِ ، والدفاعُ عنْ الأراملِ والفقراءِ والمعوزينَ . كانَ ” دونْ كيشوتْ ” يمتلكُ سيفا قديما ورثهُ عنْ آباؤهُ الذينَ كانوا قدْ توارثوهُ بدورهمْ منْ أجدادهمْ ، فقامَ بإصلاحهِ ، ولبسَ درعا وخوذةٌ وأمسكَ برمحٍ في يدِ والسيفِ في اليدِ الأخرى ، وركبَ حصانا نحيلاً ، وانطلقَ بهِ كما كانَ يفعلُ الفرسانُ . فهناكَ فرقُ بينَ شخصيةٍ تبحثُ عنْ دورٍ بدونِ فكرِ منْ ” فقرِ الفكرِ ” وشخصيةِ ” دونْ كيشوتْ ” كانتْ نموذجا منْ الشخصياتِ الحالمةِ التي تسعى نحوَ الكمالِ بكلِ الطرقِ ، ولذلكَ فعندما رأى في طريقهِ طواحينُ الهواءِ ذاتٍ
الأذرع الهائلةِ والتي لمْ يشاهدْ مثلها منْ قبلٌ ، فقدْ اعتقدَ أنها هيَ مصدرُ الشرِ في العالمِ ، وعندئذٍ قررَ أنْ يحاربها وأنْ يقضيَ عليها ؟ ! فهناكَ فرقُ بينَ أحلامِ الفتى مهرانْ وأحلامٍ ( كيشوتْ ) استلَ سيفهُ الهزيلُ ، ورمى برمحهِ نحوها ، فرفعتهُ أذرعُ الطاحونةِ الحديديةِ الطويلةِ ، فكانَ أنْ دارتْ بهِ في الهواءِ عدةَ مراتٍ ، ثمَ ألقتهُ أرضا بعدَ أنْ رفضتْ عظامهُ ، ولكنهُ في نفسِ الوقتِ اكتشفَ أنَ أذرعَ الطاحونةِ ما هيَ إلا عبارةً عنْ أشباحِ الجهلِ والسوقيةِ التي تغلغلتْ في جميعِ مظاهرِ الحياةِ ؟ إنَ روايةً ” دونْ كيشوتْ ” تمثلُ الصراعَ بينَ المثاليةِ التي رسمها في مخيلتهِ ، والواقعيةُ التي لمْ يستطعْ أنْ يتغلبَ عليها كذلكَ واقعَ قصتنا المتناقضةِ منْ شخصيةِ الفتى مهرانْ ؟ ! كثيرا منْ الكتابِ والمثقفينَ والنخبِ ” تتخيلُ نفسَ مثل ” دونْ كيشوتْ ” ، منْ كثرةِ ما يحذرونَ منهُ منْ الفوضى العارمةِ في مقالاتٍ ودراساتٍ عنْ التغييراتِ الفوضويةِ داخلَ المجتمعِ منْ صعودٍ رعاعٌ جددٌ يجلسونَ على كراسيِ أكبرَ منهمْ ؟ ! إنَ أشباحَ الجهلِ المطبقِ تظلُ تدورُ مثل ” طواحينِ الهواءِ ” تفتكُ وتقضي على محاولاتِ العودةِ إلى كلِ ما هوَ مثاليٌ وصحيحٌ داخلَ المجتمعِ إنَ أحلامَ الفتى مهرانْ كانتْ وليدةُ فترةِ صعودِ أحلامِ منْ تغني بالرأسماليةِ المتوحشةِ وحتى ولوْ كانتْ على حسابِ طبقةٍ منْ النخبِ والمثقفينَ . فكلُ إنسانِ لهُ حقُ أنْ يحلمَ في مجتمعٍ يحترمُ مبدأ ( العدالةُ والمساواةُ ) وليسَ بالمالِ السياسيِ إنَ سقوطَ صعودٍ أمثالِ ” الفتى مهرانْ ” يأتي بالعلمِ والثقافةِ والصراعِ ضدَ الجهلِ ؛ ؟ ! ! ! ! ”
محمدْ سعدْ عبدِ اللطيفْ ” كاتبٌ مصريٌ وباحثٌ في الجغرافيا السياسيةِ ” ” ” ”
[email protected]
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.