عبد الله مشنون
تشهد الجزائر في الآونة الأخيرة أزمة غير مسبوقة داخل أجهزتها الأمنية، تجلت في اختفاء اللواء ناصر الجن، المدير السابق للأمن الداخلي، في ظروف غامضة رغم وضعه تحت الإقامة الجبرية. هذا الحدث، الذي أعاد إلى الأذهان مشاهد “العشرية السوداء”، ليس سوى واجهة لأزمة أعمق تطال تماسك مؤسسات الدولة، حيث تعكس التحركات الأمنية المحمومة والصمت الإعلامي الرسمي صراعًا محتدمًا بين أجنحة السلطة، في ظل فقدان التوازن بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية والمخابرات. ومن موقع المتابع للشأن المغاربي، لا يمكن قراءة هذا التطور بمعزل عن سلسلة الإقالات والاعتقالات التي طالت قيادات أمنية في السنوات الأخيرة، وهو ما يكشف أن خطاب “الجزائر الجديدة” يتآكل تدريجياً أمام واقع الانقسامات والتصفيات داخل النظام نفسه.
تشهد الجزائر منذ أيام حالة من التوتر الأمني والارتباك المؤسسي، إثر اختفاء أحد أبرز رموز أجهزتها الأمنية، اللواء ناصر الجن، المدير السابق للأمن الداخلي، الذي فُرضت عليه الإقامة الجبرية قبل أن يتوارى عن الأنظار في ظروف غامضة. الحادثة أعادت إلى الواجهة أسئلة قديمة حول هشاشة منظومة الحكم في البلاد، وتصدّع الأجهزة الأمنية، والتجاذبات التي تُضعف مركزية القرار في واحدة من أكثر الدول حساسية في شمال إفريقيا.
في مشهد غير مألوف منذ سنوات، خضعت العاصمة الجزائرية ومحيطها لعمليات تفتيش مكثفة شاركت فيها قوات من الأمن والجيش وعناصر بالزي المدني، مع استخدام للمروحيات وتطويق أحياء بأكملها. هذه التعبئة الأمنية الضخمة لم تأتِ على خلفية تهديد إرهابي، بل بحثًا عن جنرال سابق كان يُفترض أن يكون تحت المراقبة الصارمة، في واحدة من أكثر ملفات الإحراج حساسية للنظام الجزائري منذ بداية ولاية الرئيس عبد المجيد تبون.
الجنرال ناصر الجن لم يكن مجرد مسؤول أمني عابر، بل أحد الوجوه الصاعدة في المشهد الأمني الجزائري، وُصف بأنه قريب من الدائرة الرئاسية، ورافق تبون في حملته الانتخابية الثانية. لكن إقالته المفاجئة في مايو، ثم اعتقاله ونقله من سجن إلى آخر، قبل فرض الإقامة الجبرية عليه، تكشف عن تحولات سريعة في موازين القوى داخل الدولة العميقة الجزائرية.
واختفاؤه الأخير يُرجّح أنه لم يتم دون تواطؤ داخلي أو تراخٍ متعمّد، ما يفضح وجود تصارع أجنحة داخل المؤسسات الأمنية، وسط صمت رسمي مطبق.
هذا التطور ليس معزولًا، بل يأتي ضمن سلسلة من الإقالات والتغييرات في المناصب الأمنية الرفيعة خلال السنوات الأخيرة. فمنذ بداية ولاية تبون، تعاقب عدد كبير من المسؤولين على رأس أجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية، وتمت إحالة عدد من الجنرالات إلى التحقيق أو السجن، بينما عاد آخرون إلى مواقع القرار بعد سنوات من الإبعاد، وهو ما يعكس دوامة من التصفية وإعادة التموقع داخل النظام.
يُقدّر عدد الضباط السامين الذين خضعوا لتحقيقات أو أحكام بالسجن بالعشرات، بعضهم كان يُنظر إليهم كمراكز قوة يصعب المساس بها. وهذا ما يعكس أن الجزائر لا تعيش فقط أزمة سياسية أو اقتصادية، بل أزمة ثقة داخل بنية الدولة نفسها.
فرار شخصية بحجم ناصر الجن يطرح تساؤلات جوهرية: كيف يمكن لمسؤول أمني رفيع أن يختفي بهذه السهولة في بلد يهيمن عليه جهاز أمني قوي؟ ومن يُمسك فعليًا بزمام القرار في الجزائر؟ هل لا تزال هناك مؤسسة قادرة على ضبط التوازن بين الجيش، الرئاسة، وأجهزة الاستخبارات؟
الواقع أن الصراع داخل الأجهزة المخابراتية لم يعد خافيًا. فالتحولات منذ عام 2015، عندما تم حل جهاز الأمن والاستعلام القوي الذي كان يُعرف اختصارًا بـ”DRS”، أخلّت بتوازن تقليدي كان يحكم البلاد منذ عقود، حيث فُتح الباب أمام تحالفات جديدة داخل المؤسسة العسكرية، وتضارُب مصالح بين فصائل متنازعة على النفوذ.
في ظل غياب أي بلاغ رسمي يشرح ما جرى، تتزايد التأويلات: هل تم تهريب الجنرال السابق؟ هل تمت تصفيته؟ هل القضية جزء من لعبة أكبر لإعادة تشكيل الخارطة الأمنية؟ كل الاحتمالات مفتوحة، لكن الرسالة الأوضح هي أن السلطة المركزية في الجزائر تواجه اضطرابًا داخليًا عميقًا، لا يتعلق فقط بشخص أو حادثة، بل ببنية الحكم واستقرارها.
بالنسبة للشعب الجزائري، هذه التطورات تُغذي مزيدًا من فقدان الثقة في مؤسسات الدولة. فبينما تعاني البلاد من أزمات اقتصادية خانقة، وارتفاع في معدلات البطالة، وهجرة شبابية متزايدة، يبدو أن النخبة الحاكمة منشغلة بتصفية حساباتها الداخلية، بدلًا من الاستجابة للتحديات الاجتماعية والسياسية.
قضية ناصر الجن ليست معزولة عن مشاعر القلق التي يعيشها الجزائريون في الخارج. فالجالية الجزائرية في أوروبا، خاصة في فرنسا، تتابع هذه التطورات بمزيج من الحذر والإحباط. كثيرون يرون أن نفس الممارسات التي دفعتهم للهجرة ما تزال قائمة: غياب الشفافية، غموض القرارات، والصراعات الداخلية التي تعيق أي إصلاح حقيقي.
ما يحدث في الجزائر ليس فقط هروب جنرال من الإقامة الجبرية، بل انكشاف نظام تتآكله الخلافات، وتفقد فيه المؤسسات قدرتها على ضبط التوازن والاستمرار. إنها لحظة مفصلية، قد تكون مقدّمة لمرحلة أكثر اضطرابًا، ما لم تبادر القيادة الجزائرية إلى إعادة ترتيب البيت الداخلي، واستعادة الثقة المفقودة بين الدولة، مؤسساتها، ومواطنيها، داخل البلاد وخارجها.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.