بقلم : *فيصل مرجاني*
منذ السابع من أكتوبر، وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة مفتوحة لم تكن حربًا بالمعنى التقليدي؛ بل كانت ردة فعل ضرورية أملتها الضرورات الاستراتيجية لضمان بقائها واستقرارها. فالأحداث المتعاقبة لم تأتِ في سياق حرب ابتدأتها إسرائيل، بل كانت سلسلة من الردود على تهديدات وجودية أطلقتها جماعات مسلحة تهدف إلى تقويض الدولة عبر استهداف المدنيين وإشاعة الفوضى. ما نشهده اليوم هو انهيار متسارع لمنظومة من الجماعات المدعومة من قوى إقليمية، سعت على مدى عقود لفرض واقع جديد في المنطقة عبر الحرب بالوكالة.
إن حماس في قطاع غزة وحزب الله في لبنان، بوصفهما ركيزتين أساسيتين لهذه المنظومة، تلقيا ضربات موجعة كشفت عن ضعفيهما الاستراتيجي واللوجستي. العمليات العسكرية الإسرائيلية، الموجهة بدقة واحترافية، استهدفت البنية التحتية لهذه التنظيمات، فأفرغت مخزون قوتها وقطعت خطوط الإمداد الحيوية التي كانت تمدّها بالدعم. هذه الضربات لم تكن مجرد عمليات عسكرية عشوائية؛ بل جاءت في إطار استراتيجية عميقة تهدف إلى تفكيك الروابط المعقدة التي تجمع بين هذه الجماعات، وإضعاف قدرتها على التنسيق فيما بينها.
لم تقتصر المواجهة على حدود قطاع غزة وجنوب لبنان، بل امتدت إلى سوريا، حيث شكلت الساحة السورية محورًا رئيسيًا لتحركات المليشيات المدعومة من إيران. الضربات الإسرائيلية في عمق الأراضي السورية أضعفت قدرة طهران على استخدام سوريا كمعبر لوجستي وعسكري لتعزيز نفوذها الإقليمي. هذا التفكيك الاستراتيجي لبنية المحور الإيراني أصاب صميم المشروع الذي سعت إيران إلى ترسيخه منذ مطلع القرن الحالي، مشروع قائم على استغلال الجماعات المسلحة لفرض هيمنتها وتهديد استقرار دول المنطقة.
وبالتوازي مع الضربات العسكرية، تعمّق الانقسام بين هذه التنظيمات وبين داعميها الإقليميين. في حين واصلت إيران محاولاتها لترسيخ نفوذها عبر تمويل وتسليح هذه المليشيات، بدأت قطر، التي لعبت دورًا خفيًا في دعم بعض هذه الجماعات، في مراجعة سياساتها على ضوء المستجدات. أدركت قطر أن تكلفة دعم هذه التنظيمات باتت تفوق المكاسب السياسية المرجوّة، وأن الاستمرار في هذا النهج سيؤدي حتمًا إلى أزمة سياسية دولية لا يمكنها تحمل عواقبها، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة والضغوط الدولية المتزايدة.
لقد أصبح واضحًا أن الدعم القطري لهذه الجماعات بات مصدرًا لتوترات دبلوماسية متفاقمة، تهدد مكانة قطر على الساحة الدولية وتضعها في موقف صعب أمام حلفائها وشركائها. هذا الإدراك دفع الدوحة إلى اتخاذ خطوات محسوبة للانسحاب من هذا المشهد المضطرب، حفاظًا على مصالحها الاستراتيجية وتفاديًا لمواجهة تداعيات قد تكون كارثية على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
إسرائيل، بردودها العسكرية على الهجمات التي استهدفتها، نجحت في إحداث شرخ عميق في البنية التحالفية التي قامت عليها استراتيجية المحور الإيراني. فالمليشيات في اليمن وسوريا ولبنان، وكذلك الحشد الشعبي في العراق، كانت تعمل وفق منظومة مترابطة تستمد قوتها من الدعم الإيراني الممنهج. ومع الضربات المتكررة التي استهدفت هذه المنظومة، تراجعت قدرة هذه الجماعات على تنفيذ عمليات منسقة، ما أدى إلى شلل استراتيجي أفرغ هذه التحالفات من مضمونها العسكري واللوجستي.
هذه التطورات تُعتبر تحولًا استراتيجيًا في معادلات الصراع الإقليمي. فالتفكك الذي أصاب هذه الجماعات لم يكن مجرد خسارة تكتيكية؛ بل هو ضربة في صميم المشروع الإيراني القائم على استنزاف موارد الشعوب وإغراق المنطقة في حروب لا تنتهي. عقد ونصف من الحروب الطائفية والاغتيالات وعدم الاستقرار، بات يواجه اليوم مأزقًا وجوديًا لم يعد بإمكان داعميه تجاوزه بسهولة.
ما تحقق لإسرائيل في هذا السياق ليس مجرد انتصار عسكري؛ بل هو إعادة تشكيل للواقع الجيوسياسي للشرق الأوسط. انهيار المنظومة التي اعتمدت عليها إيران في حروبها بالوكالة يعني بروز فرصة لإعادة الاستقرار في المنطقة، بعيدًا عن هيمنة المليشيات التي رهنت شعوبها لصراعات عبثية. وفي ظل هذه الوقائع، يصبح الرد الإسرائيلي على هجمات السابع من أكتوبر جزءًا من عملية تاريخية أوسع تهدف إلى استعادة التوازن في منطقة عانت طويلًا من الفوضى والدمار.
في هذا السياق، فإن التبعات السياسية والاستراتيجية لهذه المواجهة تمتد إلى ما هو أبعد من حدود الصراع المباشر. لقد أُضعفت قدرة إيران على استخدام هذه الجماعات كورقة ضغط إقليمية، وبات مشروعها في مأزق حقيقي. هذه النتائج تمثل شهادة واضحة على أن صلابة الاستراتيجية الإسرائيلية وقدرتها على المناورة والدفاع عن مصالحها، أسهمت في تحقيق تفوق استراتيجي حاسم، أظهر أن الاستقرار لا يمكن أن يتحقق ما دامت هذه الجماعات موجودة كأدوات لتنفيذ أجندات خارجية.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.