المبادرة الأطلسية المغربية: تحول استراتيجي يعيد رسم خريطة الساحل والصحراء

abdelaaziz65 ساعات agoLast Update :
المبادرة الأطلسية المغربية: تحول استراتيجي يعيد رسم خريطة الساحل والصحراء

بقلم: فكري ولدعلي  

في ظل بيئة دولية مأزومة وتغيرات جيواستراتيجية متسارعة، برزت المبادرة الأطلسية المغربية لدول الساحل والصحراء كتحول نوعي في المقاربة السياسية والاقتصادية والأمنية للعلاقات المغربية-الإفريقية، مدفوعة برؤية استباقية تعكس تموضع المغرب كفاعل إقليمي صاعد يسعى إلى تكريس منطق رابح/رابح، وتثبيت الأمن والاستقرار في منطقة عانت طويلاً من التهميش والصراعات البنيوية.

قراءة في السياق الدولي والإقليمي

تأتي هذه المبادرة الملكية، التي أُعلن عنها في خطاب العاهل المغربي بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء، في لحظة حاسمة من تاريخ المنطقة. فالساحل والصحراء يعيشان على وقع سلسلة من الانقلابات السياسية، وتنامٍ للحركات الجهادية المسلحة، وانسحاب تدريجي للقوى الاستعمارية التقليدية، وعلى رأسها فرنسا. وفي المقابل، تدخل قوى دولية جديدة (روسيا، الصين، والولايات المتحدة) ساحة التنافس الجيوسياسي الإفريقي، مما يجعل من هذه المنطقة معقلاً لصراع نفوذ متعدد الأقطاب.

ضمن هذا الإطار، جاءت المبادرة المغربية كبديل تنموي وأمني متكامل، يحمل مقومات الفعل بدل رد الفعل، ويوظف البعد البحري الأطلسي للمغرب كنقطة ارتكاز نحو إفريقيا، عبر دمج دول الساحل الحبيسة ضمن منظومة لوجستية واقتصادية متقدمة.

الرؤية المغربية: من الجغرافيا إلى الجيو-استراتيجية

لقد أدرك المغرب، انطلاقاً من موقعه الجيوسياسي الفريد، أهمية البُعد الأطلسي ليس فقط كواجهة بحرية، بل كأداة تأثير دبلوماسي وأمني واقتصادي. فالمبادرة لا تهدف فقط إلى خلق ممر بحري لدول الساحل، بل إلى بناء فضاء إقليمي مندمج يقوم على:

تعزيز البنية التحتية للربط الطرقي والمينائي بين المغرب ودول الساحل؛

تطوير أسطول بحري تجاري وطني يخدم المبادلات جنوب/جنوب؛

تشجيع الاستثمار في الاقتصاد الأزرق وتحلية المياه والزراعة الساحلية؛

تحويل المنطقة إلى وجهة سياحية مستدامة؛

فتح آفاق الشراكة في مجالات الطاقة المتجددة والثروات البحرية.

التحديات البنيوية والرهانات الواقعية

لا يمكن إنجاح هذه المبادرة دون وعي عميق بالتحديات التي تواجه دول الساحل، ومنها هشاشة البنى الاقتصادية، ارتفاع معدلات الأمية، ضعف الناتج الداخلي الخام، واستفحال الفقر. كما أن الطبيعة الجغرافية القاسية، إلى جانب الامتدادات القبلية العابرة للحدود، تعقد مشهد الاستقرار السياسي والاجتماعي.

ورغم الغنى الطبيعي لتلك الدول، خاصة في النفط واليورانيوم والذهب، إلا أنها تعاني من ضعف في إدارة الموارد، وغياب رؤية تنموية شاملة. المبادرة المغربية، إذًا، تراهن على تجاوز هذه التحديات عبر نقل نموذج مغربي ناجح قائم على الاستقرار السياسي، والإصلاح التدريجي، والانفتاح الاقتصادي.

بعد أمني لا يمكن تجاهله

الجانب الأمني يحتل مكانة مركزية في هذه المبادرة، إذ تهدف إلى إغلاق الفراغات الأمنية التي تستغلها التنظيمات الجهادية العابرة للحدود. ويبرز هنا البعد المغربي الذي يراهن على تصدير خبرته الأمنية، ومأسسة التعاون الأمني مع دول الجوار الجنوبي، كوسيلة لحماية الأمن القومي من التهديدات الإرهابية المتصاعدة.

كما تتيح المبادرة فرصة لبناء تحالفات أمنية جديدة بعيدًا عن النموذج الاستعماري التقليدي، ووفق رؤية إفريقية خالصة تضمن الاستقلالية وتعزز مناعة دول الجنوب.

نحو دبلوماسية تنموية متقدمة

ترتكز المبادرة الأطلسية على مفهوم جديد للدبلوماسية المغربية، قوامه الانتقال من “رد الفعل” إلى “الفعل الاستباقي”، ومن دبلوماسية الملفات التقليدية إلى دبلوماسية التنمية والاندماج الإقليمي. فهي ليست مجرد مشروع اقتصادي أو أمني، بل رؤية شاملة لتعزيز الدور المغربي في القارة، وتكريس نموذج شراكة جنوب/جنوب حقيقي وفعّال.

خاتمة: من المبادرة إلى المنظومة

يبقى نجاح المبادرة مرهونًا بمدى انخراط دول الساحل والصحراء في هذا التصور، واستعدادها للقطع مع الماضي المرتبط بالتبعية والخضوع للمقاربات الأمنية الغربية. إنها فرصة لتأسيس نظام إقليمي جديد، قائم على التعاون المتوازن، واستثمار الرأسمال البشري، والثروات الطبيعية، والبنية الجغرافية المشتركة.

في زمن التحولات الكبرى، لا مكان للحياد الجغرافي أو الجمود السياسي. والمغرب، عبر هذه المبادرة، يضع نفسه في قلب دينامية إقليمية واعدة، قد تشكل بداية لصياغة عقد جيواستراتيجي جديد بين شمال إفريقيا وعمقها الساحلي والصحراوي.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading