عبد الله مشنون
كاتب وصحفي مقيم بايطاليا
بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، وجّه الملك محمد السادس تحية تقدير وإشادة إلى الجالية المغربية المقيمة بالخارج، مؤكدًا على دورها المحوري في الدفاع عن الوحدة الترابية، وعلى ضرورة الانتقال من الاعتراف الرمزي إلى سياسات عمومية ومؤسساتية فعّالة، تُعزز اندماج مغاربة العالم في المشروع التنموي الوطني، وترفع العراقيل التي تُضعف ارتباطهم العملي والوجداني بالوطن.
إن هذا الخطاب، كما هو الحال في خطب ملكية سابقة، يعكس رؤية استراتيجية ترى في مغاربة المهجر رافعة وطنية لا غنى عنها، وضرورة دمجهم ضمن السياسات الوطنية ليس مجاملة، بل استحقاقًا ومصلحة عليا. لكن الملاحَظ، للأسف، هو الفجوة العميقة بين هذا التوجه الملكي المتقدّم، وبين السياسات الحكومية التي غالبًا ما تتسم بالتقصير، إن لم نقل الغياب التام في بعض المحاور.
ومن خلال رصد واقع الجالية المغربية بإيطاليا، التي تشكل واحدة من أكبر الجاليات المغربية بأوروبا، تتّضح معالم هذا التناقض. إذ يشعر عدد كبير من أفراد الجالية بتهميش مستمر، سواء على مستوى التمثيلية السياسية، أو الخدمات الإدارية، أو التأطير الثقافي والديني، أو حتى فيما يتعلق بأبسط حقوقهم الرمزية والعملية في الحفاظ على صلتهم بالوطن.
• إشكالية التمثيلية السياسية: غياب أم إقصاء؟
رغم أن الدستور المغربي يقرّ بحقوق المواطنة الكاملة لجميع المغاربة، أينما وُجدوا، إلا أن مغاربة العالم لا زالوا محرومين فعليًا من حقهم في التمثيلية داخل البرلمان. فبينما يتيح لهم القانون التصويت في الانتخابات الوطنية، فإن إمكانية الترشح، أو تمثيلهم بدوائر خاصة بهم، لا تزال مؤجَّلة، على الرغم من الخطابات الملكية الصريحة في هذا الباب.
إن هذا الغياب لا يمكن تفسيره فقط بالصعوبات اللوجستيكية أو التقنية كما يُروّج، بل يبدو مرتبطًا بغياب إرادة سياسية حقيقية. فقد أثبتت عدة دول، بينها تونس وفرنسا والجزائر، إمكانية دمج جالياتها في مؤسسات القرار، وتخصيص تمثيلية نيابية لهم، فلماذا لا تُطبق التجربة ذاتها في المغرب؟
• من خطاب الإنصات إلى واقع الصمت الرسمي
يأتي الخطاب الملكي الأخير ليطرح مجددًا سؤال الانسجام بين توجيهات أعلى سلطة في البلاد، وبين أداء الحكومة والإدارات العمومية. فالمؤسف أن هذه الأخيرة تُظهر ضعفًا هيكليًا في التفاعل مع انتظارات الجالية، بدءًا من قضايا الاستثمار، مرورًا بالخدمات الإدارية، وصولًا إلى الملفات الحساسة مثل التأطير الثقافي والديني للأجيال الثانية والثالثة.
تجميد وزارة الجالية، وغياب سياسة واضحة في التعامل مع الفاعلين المدنيين بالخارج، يُظهر أن الحكومة تتعامل بمنطق “التدبير الموسمي” لقضايا مغاربة العالم، خصوصًا خلال الصيف أو في فترات الانتخابات. أما بقية العام، فالجالية خارج الأجندة السياسية.
• إيطاليا نموذجًا: الغلاء واللايقين والهشاشة
في الحالة الإيطالية، يتقاطع التهميش مع عوامل اقتصادية واجتماعية إضافية. فالسنوات الأخيرة شهدت تراجعًا كبيرًا في عدد زيارات المغاربة المقيمين بإيطاليا إلى بلدهم الأم، بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار تذاكر السفر، في ظل غياب أي دعم أو سياسة حكومية تروم تسهيل العودة الموسمية.
هذا الغلاء لا يمكن قراءته فقط في بُعده المالي، بل يتعداه ليصير عائقًا هوياتيًا، يفصل الأجيال الجديدة عن الوطن، ويضعف الرابط النفسي والثقافي مع المغرب. حين يصبح السفر إلى الوطن امتيازًا لا قدرة عليه للكثيرين، فإن مشروع ربط الجالية ببلدها يتحول إلى شعارات بلا جدوى.
• أزمة الهوية: الشباب في مرمى القطيعة
الأزمة الحقيقية التي يواجهها مغاربة العالم اليوم ليست فقط سياسية أو إدارية، بل بالأساس أزمة هوية. فمع غياب التأطير الثقافي والديني، وتراجع الحضور المؤسساتي المغربي في أوروبا، يشعر كثير من أبناء الجالية، خصوصًا الشباب، بأنهم يعيشون في منطقة رمادية: لا هم مندمجون تمامًا في بلدان الاستقبال، ولا هم مرتبطون بمرجعية وطنية حية. ويؤدي هذا الوضع إلى انكماش شعور الانتماء، ونشوء فراغ ثقافي يُملؤ أحيانًا بخطابات متطرفة أو مشوشة.
• الجمعيات الجادة في مواجهة لوبيات الزبونية
رغم هذا المشهد، هناك مبادرات مدنية تستحق التنويه، تقوم بها جمعيات مغربية نشطة في إيطاليا، تبادر إلى تنظيم حملات من أجل خفض تذاكر السفر، أو تأطير الشباب، أو فتح قنوات تواصل مع المؤسسات الوطنية. غير أن هذه الجمعيات تصطدم، وفق شهادات عديدة، بلوبيات مصالح تتحكم في “بوابات الجالية” وتُقصي الأصوات المستقلة، مكرسة منطق الولاء بدل الكفاءة.
فهل يمكن بناء تمثيلية حقيقية لجالية تُقصى نخبها الصادقة، وتُهمّش مبادراتها، ويُنظر إليها فقط ككتلة انتخابية أو خزّان مالي؟
• المؤسسة المحمدية لمغاربة العالم: أمل مشروط
أعلن الملك في خطاب سابق عن تأسيس “المؤسسة المحمدية لمغاربة العالم”، كمبادرة تروم تنظيم العلاقة مع الجالية بشكل جديد وفعال. ورغم الأمل الذي بعثه هذا الإعلان، إلا أن مصير المؤسسة لا يزال محاطًا بعدم اليقين. فنجاحها مرهون بمدى استقلاليتها، وقدرتها على تمثيل الكفاءات الفعلية بدل إعادة إنتاج النخب التقليدية.
• خاتمة: من التقدير الرمزي إلى الفعل السياسي:
في المحصّلة، لا يدعو هذا المقال إلى المواجهة أو التأليب، بل هو محاولة صادقة لمساءلة الدولة، حكومة ومؤسسات، عن مدى قدرتها على تحويل خطاب الرعاية الملكية إلى سياسات حقيقية. فمغاربة العالم ليسوا مجرد تحويلات مالية، بل امتداد استراتيجي للوطن في الخارج، ورافعة تنموية وثقافية ينبغي أن تكون في صلب المشروع الوطني.
هل نملك اليوم الجرأة لفتح هذا الورش بجدية؟ وهل يوجد في الدولة من يملك الشجاعة السياسية والمؤسساتية للإصغاء لهذا الصوت؟
الجواب لا ينبغي أن يُنتظر من المقال، بل من آليات الإصلاح إن كانت جادة لا موسمية.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.