إن الأحداث التي تجري هذه الأيام في المغرب، تدعونا جميعا إلى إمعان النظر في أسبابها وفي نتائجها، قبل أن يدهمنا ما لا يُحمد، مما عرفت بلدان شقيقة نظيره من مدة قريبة. لا بد أولا أن نعتبر بأنظمة كانت تظن نفسها “أبدية”، فإذا بها تصبح في ليلة، من التاريخ. ثم بعد ذلك، ينبغي أن نتجنب قدر الإمكان الفوضى، التي رأيناها تغمر شعوبا، كانت تروم تحسين أوضاعها من غير شك، حين لم تُحسن تناول الأمور بترتيبها المنطقي الشرعي. وحتى نسهل تبيّن الوضع من مختلف جوانبه، وبعيدا عن أي انحياز سياسي مغرض، نرى أن نُجْمل الكلام إجمالا، في النقاط التالية:
- نظام الحكم: لا شك أن نظام الحكم الملكي الوراثي في المغرب، رغم كثير من سلبياته التطبيقية، هو عامل استقرار جوهري للبلاد، لا يكاد يختلف على هذا الأمر، إلا من تعوِزه الموضوعية والإنصاف من الناس. ولن نخفي مخالفتنا المبدئية هنا لكل من يريد تغيير النظام، سواء أكان من الإسلاميين الذين يزعمون إقامة الخلافة، أم كان من اليساريين الذين يطمحون إلى ملكية برلمانية لا يحكم فيها الملك. ولا بأس أن نوضح وجه مخالفتنا للتوجّهين باقتضاب، فنقول: أما فيما يعود إلى الخلافة، فقد ذكرنا مرارا أن الزمان ليس زمانها؛ وعلى هذا، فإن كل حكم سيؤسس من قِبل الإسلاميين جدلا، لن يعدو أن يكون مُلكا بالمعنى الشرعي. واستبدال مُلك بملك، مع تعريض البلاد لما لا تُعلم عواقبه، لا يمكن أن يكون -بالقطع- تصرفا حكيما يليق بالنسبة الدينية. أما الملكية البرلمانية، فهي لا تناسب ديننا وثقافتنا؛ لأن الحاكم عندنا، لا بد أن يكون تنفيذيا، يُحاسَب على حكمه من قِبل الله، ثم من قِبل الناس بعد ذلك. وأكبر مظهر لهذا المنصب، هو الخليفة الإمام، الذي يكون حاكما عاما للأمة. فإن تعذرت إقامة الخلافة -كما هي الحال- فإن الحاكم القطري، يُعامل من جهة الشرع معاملة نائب الخليفة. ومن هذا الوجه، تُسند إليه -وقتيا- جل صلاحيات الخليفة بحسب ما نصت عليه الشريعة، ووفق حدودها.
غير أن نظام الحكم في المغرب، ومنذ الاستقلال، لم يُعمل على تأسيسه كما ينبغي، نظريا وعمليا. ذلك لأن الملك الحسن الثاني رحمه الله، لم تُترك له الفرصة للتفرغ لتقوية البناء الداخلي، بسبب تكرار محاولات الانقلاب عليه، وبسبب تعدد المرجعيات الأيديولوجية في البلاد، التي توزعت قوى الداخل وقتها. لكن مع ذلك، يُحسب له أنه أرسى القواعد الأولى لإمارة المؤمنين، التي كان ينبغي أن يُعتنى بها من جهة التأصيل عناية أكبر فيما بعد؛ حتى لا يغلب عليها الطابع التاريخي التقليدي، الذي ينفر منه العصرانيون. ومما زاد من صعوبة “التأسيس”، ضغوط المجتمع الدولي، الذي لا يسمح بقيام نظام قوي مستقل على التمام، في منطقتنا. وفي معادلة سياسية متعددة المنطلقات والغايات، لا بد من ظهور فئة الانتهازيين، الذين يبتزون النظام، في مقابل عرض خدماتهم، التي تكون ضرورية للحفاظ على الأمن العام والسلم الاجتماعي، نسبيا وظرفيا. من هنا نشأت طبقة الفاسدين في المجتمع المغربي، والتي بلغ بها الأمر إلى أن تصبح “حزبا” سياسيا غير رسمي، عابرا لجميع الأحزاب والهيئات.
وعند تولي الملك محمد السادس وفقه الله، فقد ورث نظام حكم سقيم، لا يترك له مجالا واسعا من أجل المبادرة والإبداع، وإن أبدى في مرات عديدة رغبته في الإصلاح، واشمئزازه مما آلت إليه البلاد؛ لكن السياسة لا مجال فيها للمجاملة أو إيجاد الأعذار. وفي سياق ما عرفته البلدان العربية من اضطرابات، وعلى ضوء ما تعرفه كل القطاعات الوطنية من فساد وترهل، لا يمكن أن نقول بإمكان استمرار الوضع على ما هو عليه البتة. وحتى لا يُترك الأمر لغضبات الشعب، التي لا تُدرى مآلاتها، فإن الملك مطالب بإصلاح عاجل للنظام، لا يُكتفى فيه بما عُهد من الترقيعات السطحية، المبنية على التوازنات السياسية الاحترافية، البعيدة عن الواقع الشعبي كما هو في نفسه. ذلك الإصلاح، ينبغي أن يتحمل فيه الملك تبعات الحكم فعليا ومباشرة؛ مما يستدعي إعادة النظر في عمل المؤسسة الملكية وفي مهامها. ولا بد مع هذا كله، أن يعمل الملك على تمتين صلته بالشعب مباشرة عبر ممثلين له محليين، ينقلون منه وإليه بأمانة ما يجري على الأرض؛ ولسنا نتكلم هنا عن العمال والولاة، الذين صاروا في أحيان كثيرة من ضمن منظومة الفساد. نعني من هذا كله، أن الملك ينبغي أن تمتد مؤسسته إلى الأقاليم، وأن يكون عليها من يثق الشعب في أمانتهم؛ بعكس من يعملون الآن بها، ويتعالون على الشعب وكأنهم ليسوا منه. نقول هذا، ونحن نعلم أن الملك له من سعة الفهم ومن قابلية التغيير، ما يجعله أهلا للقيام بهذه المبادرة التاريخية. - الحكومة: إن الحكومة الحالية، قد أوفت على سابقاتها، من حيث الفساد والاستهتار. نحن لا نشك لحظة، أن منظومة الفساد المتحكمة فعليا في البلاد، لم تترك لها مجالا للعمل الجدي، بحسب ما وعدت؛ لكن، لولا قابليتها للفساد في نفسها، ما استمرت في تمثيل مسرحيتها، التي لم تعد تنطلي على أحد. ولا بد أن نذكُر هنا غلطات رئيس الحكومة؛ من قبيل التعابير العنصرية القادحة في مكونات الشعب (الانتماء السوسي الذي هو مفخرة المغاربة مثلا)، ومن قبيل القسم على إمضاء مرسومين بشأن الأساتذة المتدربين، ضدا على رغبات شعبية معتبرة؛ ومن قبيل العبث بالمؤسسة القضائية، حد إفراغها من معناها؛ وكأنه الحاكم المطلق، الذي لا معقب لحكمه!.. هذا، بالإضافة إلى إنزاله للخطاب السياسي الرسمي، إلى مستوى التهريج (الحلقة عند المغاربة). كل هذا، ما كان ليُقبل ممن زعم أن مرجعيته دينية؛ وإن تُجووِز فيه عن غيره قليلا. وهو أمر لا غرابة فيه، عند اعتبار الظروف الجيوسياسية التي وُلدت فيها هذه الحكومة، والتي كانت محمّلة بالوعود والآمال.
- أما الأحزاب السياسية المحترفة، فإنها قد فقدت صدقيتها لدى الشعب المغربي إلا قليلا، بعد تكرار التجارب التي أبانت عن ضعف في الرؤى لديها، وعن غياب للاستراتيجيا، شبه عامّين. وإن عدنا إلى الإحصائيات الانتخابية، فإننا سنجد الحزب الحقيقي الأول في المغرب، هو حزب المقاطعين، الذين يأنفون من الدخول في مهازل يترتب عليها خراب البلاد والمغامرة بمستقبلها. هذا الحزب غير الرسمي والمنكَر، له من الإدراك والحكمة، ما يجعله المؤتمن الحقيقي على البلاد، إن أُحسن التواصل معه، وأُعيد إليه الاعتبار عمليا. الأغلبية المقاطعة للزور، هي نفسها التي تتمسك بالملك، ولا تريد ركوب موجات التغيير العشوائي، وإن زعم المتملقون المغرضون عكس هذا. وعلى الملك أن يعرف لهذه الفئة قدرها، وأن يسعى إلى معاملتها معاملة مباشرة، بعيدا عن الوسطاء غير المأمونين. لن نجازف إن قلنا: إن الأزمة السياسية في المغرب، أساسها سوء تحقق التعارف بين الطرفين المعنيين على أكمل وجوهه، والذي يستثمره مرتزقة السياسة إلى أبعد الحدود، من دون وازع خلقي، ولا رادع قانوني.
- الشعب: إن الشعب المغربي من أطيب الشعوب ومن أكثرها صبرا على المكاره؛ لكن الأمر لا يُمكن أن يستمر على هذه الشاكلة، إلى ما لا نهاية!.. لا بد من إعادة هيكلة المؤسسات التابعة للدولة من جديد، بعيدا عن الزور والمغالطة اللذين طبعا مرحلة ما بعد الاستقلال كلها. وإن مغاربة اليوم (الشباب)، ليسوا كمغاربة الأمس. إن الواحد من الشباب اليوم، قد يفوق من حيث القدرات العقلية والمهارية كثيرا من الوزراء؛ وقد يفوق من حيث الوعي السياسي، كثيرا من أمناء الأحزاب المحترفين. لكن مع هذا، لا بد من أن نقرر أنه لولا ضعف الإدراك والتخلف اللذان يُغلّبان التوجه الأناني لدى الشعب، على ما هو عام ومشترك، ما كان للفساد أن ينتشر وأن يسود. نعني من هذا أن الشعب هو المسؤول الأول في النهاية، عن الوضع العام، رغم كل شيء؛ لأنه هو من عليه أن يُحدد التوجهات السياسية العامة بحسب خصوصياته وحاجاته؛ وعليه أن يجد لذلك الطرق المناسبة، بحسب المتغيرات، وفي كل الظروف.
بناء على كل ما سبق، واستباقا لكل انفلات قد يقطع الطريق على الإصلاح، لا يبقى أمام من بيده أمر هذه البلاد، إلا أن يقيل الحكومة الحالية (بما أنه لا يمكن الكلام عن إقالة للشعب) قبل فوات الأوان، وقبل أن تنجح في إخراج الشعب بأكمله إلى الشارع من أجل الاحتجاج؛ وأن يجمع حكماء المغاربة -بعيدا عن الانتهازيين ومحترفي الخداع- لينظروا من جديد في إعادة تأسيس نظام حكم يُرضي المغاربة ملكا وشعبا حقيقة، يكون بمثابة عقد جديد، منبنٍ على الوضوح التام؛ وليعيدوا لمؤسسات الدولة وظائفها الأصلية، مع ما يقتضيه ذلك من شفافية تامة وإشراك للقوى الشعبية، يؤسسان لثقة متبادلة حقيقة. ولسنا نتكلم هنا عن وضع دستور جديد، كما فُعل في عام 2011م، والذي قيل إن سمته الأساس هي انتزاع بعض صلاحيات الملك، وإضافتها إلى صلاحيات الوزير الأول. إن هذا لم يُجْد، ولن يُجدي في المستقبل، لسببين: الأول، لأننا لا نريد الانتقاص من صلاحيات الملك؛ بل نريد توسيعها في الاتجاه الصحيح، والذي يُفضي إلى إقامة العدل في البلاد، وقطع دابر الفساد، من دون إطالة. والثاني، هو أن رئيس الوزراء إن وسعت صلاحياته، مع التخلف العام الذي نعاني منه، سيصبغ فترة حكمه بصبغته، التي لن تكون دائما مرغوبا فيها من قِبل الشعب؛ أو لن تكون حتما موافقة للسياق العام، تنمويا أو سياسيا. وهذا الأمر سيضعف الدولة، ويشتت جهودها، بعكس المطلوب. والقياس على الدول الغربية هنا، لا ينفع؛ لأنه قياس مع الفارق؛ بل مع الفوارق العديدة. وعلى من يريد تبيّن ما نرمي إليه، أن يقارن بين كلام السياسيين عندنا في بداية أمرهم، وبين أعمالهم وتوجهاتهم الحقيقية، التي كثيرا ما تعود شخصية وعائلية فحسب، عند احتواشهم للمال العام، وصرفه بالباطل في المشاريع الخاصة.
نحن نعلم أن أمر الإصلاح دونه عوائق متعددة، داخلية وخارجية؛ لكنه ضروري وملحّ، ولا محيد عنه. لا يمكن أن نتجاهله، وأن نتجنب المخاطر المحدقة في الآن ذاته. وقبل أي خطوة، نريد من الشعب المغربي، أن يعلم مواطن القوة لديه، حتى يتمسك بها؛ وأن يحذر الانسياق خلف المغامرين، الذين لا يتقون الله فيه!.. فكم من كلام رنان، تكون نهايته علقما!..
بعد كل ما مر، لم يبق إلا أن نقول: إلى متى، ونحن نجرب بناء الدولة على غير أساس متين؟!.. وكم سنستغرق من وقت بعدُ، للمرور إلى المـُنجَز النهائي سياسيا؟!.. بعد كل هذا التخبط والارتجال؟!.. والآن، فإما أن يكون الإصلاح بشروطه، وإما أن ننتظر الفوضى التي بدأت تطل برأسها؛ والتي ستأتي على الأخضر واليابس، من غير شك. لا يستهنْ من بيده الحكم من جميع المستويات، بالغضب الشعبي المخزّن منذ عقود من الزمن، كان يعامَل فيها المواطن وكأنه أجنبي عن بلده؛ أو كأنه أثاث من أثاث الوطن، الذي لا يُعرف له حق فيه. فإما أن نعمل جميعا على إصلاح السفينة، كلٌّ من موقعه؛ أو فلنستعد للغرق جميعا!..
(كُتب هذا المقال، بعد مرور ما يقارب 420 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن).
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.