كلمة السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بمناسبة اليوم الدولي للقاضياتب تاريخ 26 أبريل 2021، وبهدف تعزيز حضور المرأة في المجال القضائي، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم العاشر من مارس من كل عام يوما دوليا للقاضيات.
ويؤكد قرار الجمعية العامة، أنّ مراعاة المنظور الجنساني في تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام ألفين وثلاثين (2030)، والمساواة بين الجنسين سيسهمان مساهمة حيوية في إحراز تقدم في تحقيق جميع أهداف وغايات التنمية المستدامة.
كما يرسّخ القرار المذكور، التوجه القائم على المشاركة النشطة للمرأة على قدم المساواة مع الرجل، في صنع القرار على جميع المستويات، كأمر أساسي لتحقيق المساواة والتنمية المستدامة والسلام والديمقراطية. بالإضافة إلى تركيزه على الالتزام بوضع وتنفيذ استراتيجيات وخطط وطنية ملائمة وفعالة، من أجل الارتقاء بمركز المرأة في نظم ومؤسسات العدالة القضائية على صعيد المراتب القيادية والإدارية وغيرها.
ويعتبر احتفال المجلس الأعلى للسلطة القضائية باليوم الدولي للقاضيات تعزيزاً لحضور المرأة المغربية ومشاركتها على قدم المساواة مع الرجل في سلك القضاء. وهي التي طالما حققت مكتسبات هامة بفضل عناية جلالة الملك محمد السادس منذ اعتلائه عرش أسلافه المنعمين، بوضعيتها وحقوقها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وبفضل الإرادة الملكية السامية في تقوية مشاركتها الفعلية في مسلسل صنع القرار، وتمكينها من احتلال المكانة التي تستحقها في مختلف المجالات، وتقلّدها للعديد من المناصب القيادية واستفادتها من ثمار التحديث والتنمية. وهو ما كرسه الدستور المغربي من خلال مبدأي المساواة بين الجنسين والمناصفة. وكذلك إقرار المساواة بين الرجل والمرأة في تقلد الوظائف العامة.
وهو ما عبّر عنه جلالة الملك حفظه الله، في الرسالة السامية الموجهة إلى المشاركين في أشغال القمة العالمية الثانية لمبادرة “نساء في إفريقيا”، بتاريخ 27 سبتمبر 2018 بمراكش بالقول السديد : “لا يمكن لأي بلد، أو أي اقتصاد، أو مقاولة،
أو أي مجتمع، أن يرفع تحديات العصر، أو يمارس استثمار كل الطاقات التي يزخر بها، بمعزل عن دور المرأة.”
حضرات السيدات والسادة؛
تعتبر المرأة القاضية طاقة حيوية يزخر بها بلدنا المغرب. وهي التي ولجت السلك القضائي منذ مطلع الستينات في شخص القاضية أمينة عبد الرازق، بعد أن كرس الظهير الشريف المكون للنظام الأساسي للقضاة الصادر سنة 1958 مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الولوج إلى القضاء، وبنفس الشروط ودون إقصاء لها من أي مهمة من المهام القضائية.
وتعتبر التجربة المغربية تجربة مبكرة بالمقارنة مع محيطنا الإقليمي، حيث تأخر إدماج المرأة في سلك القضاء ببعض بلدان المنطقة لعدة عقود أخرى. وقد مكن التحاق المرأة المغربية بسلك القضاء، منذ السنوات الأولى للاستقلال، من المساهمة إلى جانب زميلها الرجل في تحقيق مغربة القضاء وتعريبه وتوحيده. وذلك لأن النساء المغربيات قد ولجن سلك القضاء مدعومات بتكوين قانوني رصين، ومسلحات بإرادة ذاتية قوية، ومدفوعات بشحنة وطنية عالية. كما ساعدهن تشجيع قوي من الأسر وترحيب كبير من المواطنين. مما ساهم في سرعة اندماجهن في صفوف مهنةٍ ظلت لقرون طويلة حكراً على الرجال. فأبانت القاضية المغربية عن حنكتها وذكائها ومهنيتها وجديتها، مما مكنها بعد سنوات من العمل المضني، والمثابرة المثمرة، من اقتحام مجالات قضائية مرموقة. فتم تعيين أول امرأة قاضية بالمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) محامية عامة في شخص السيدة أمينة بنشقرون سنة 1987. وتمت ترقية أول قاضية إلى الدرجة الاستثنائية سنة 1995.
وتعززت الثقة في المشهد القضائي بنسائه وذلك بتقلدهن مناصب المسؤولية ابتداء من نهاية التسعينات، حيث تم سنة 1998 تعيين أول رئيسة لمحكمة ابتدائية بالرباط في شخص السيدة ليلى المريني والتي تَشَرَّفَتْ بتعيينها لاحقاً عضواً بالمجلس الدستوري. وهي مهمة تشرفت بتوليها كذلك القاضيتان السعدية بلمير ولطيفة الخال العضو حالياً بالمحكمة الدستورية.
وإذا كان أول الغيث قطرة، كما يقول المثل، فإن تولي القاضيات لمناصب المسؤولية قد توالى، حيث عينت خلال نفس السنة السيدة آسية ولعلو، أول رئيسة لمحكمة تجارية (الرباط). والسيدة ليلى بنجلون أول رئيسة أولى لمحكمة استئناف تجارية. والسيدة مليكة بنمسعود رئيسة أولى لمحكمة الاستئناف بتطوان. كما تم تعيين السيدة مليكة بنزاهير أول رئيسة غرفة بمحكمة النقض منذ سبع سنوات خلت. وهي التي كان لها شرف ترأس جلسة بمجموع غرف محكمة النقض منذ أشهر، لتصبح بذلك أول قاضية مغربية تنال هذا الشرف الأثير.
ومن جهة أخرى فإن سبعة أقسام بمختلف غرف محكمة النقض تشرفت أو تتشرف برئاسة قاضيات مغربيات فاضلات منذ أن تولت هذه المهمة لأول مرة السيدة فاطمة عنثر.
وعلى صعيد محاكم الموضوع، واصلت القاضيات المغربيات ريادة الهيأة القضائية عن جدارة واستحقاق، فتم تعيين أول وكيلة للملك لدى محكمة تجارية (مكناس) سنة 2001 في شخص السيدة خديجة الباني، لتتلوها أخريات. وتعيين أول وكيلة عامة للملك لدى محكمة الاستئناف التجارية بفاس سنة 2018 في شخص السيدة رحمونة الزياني. وأول وكيلة للملك لدى محكمة عادية بابتدائية المحمدية السيدة رابحة فتح النور سنة 2021. وقائمة القاضيات اللواتي تولين المسؤوليات القضائية والإدارية طويلة وزاخرة بالأسماء القضائية الوازنة. ومن بينها القاضيات اللواتي يتحملن هذه المهام في الوقت الراهن عن كفاءة وباقتدار.
كما أن سجل القاضية المغربية زاخر بالقاضيات اللواتي تولين مناصب دولية كشأن الأستاذة السعدية بلمير عضو لجنة الأمم المتحدة لمنع التعذيب لولايتين، والسيدة لطيفة توفيق رئيسة مجلس الاستئناف بمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم اليونسيف. بالإضافة إلى إشعاع السجل الذهبي للقضاء المغربي ببريق جوائز ذهبية حصلت عليها قاضيات مغربيات فاضلات على غرار جائزة بطل مكافحة الاتجار بالبشر التي توجت بها السيدة أمينة أفروخي سنة 2017 من وزارة الخارجية الأمريكية، لأجل إسهاماتها الرائدة في مجال مكافحة الاتجار بالبشر.
وقد تمكنت القاضية المغربية كذلك من اقتحام قلعة أول مجلس أعلى للسلطة القضائية المستقاة بفضل قرار ملكي حكيم وفره دستور 2011. وسيذكر التاريخ بفخر القاضيات الفُضْلَيَات اللواتي ساهمن بفعالية في تأسيس أول مجلس، وهن السيدات عائشة الناصري وماجدة الداودي وحجيبة البخاري. كما سيذكر القاضيات اللواتي عوضنهن في ولاية المجلس الحالية السيدات أمينة المالكي وسعاد كوكاس ونزهة مسافر، واللواتي نرجو لهن التوفيق في مهمتهن النبيلة، لغاية تسليم المشعل لقاضيات أخريات. ومع أمل بلوغ المناصفة إن شاء الله.
والأكيد أن قائمة الأسماء النسوية، مثل هذه التي تم إيرادها اعتماداً على الذاكرة، كانت ستطول لو تمت العودة إلى الملفات واستطلاع أرشيف المجلس الأعلى للقضاء السابق.. وهي مهمة أرجو الله أن يوفقني في إنجازها بواسطة زميلاتنا وزملائنا في إدارة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فنحفظ بذلك الذاكرة القضائية النسوية للأجيال القادمة. والتي يحق لها أن تفخر بإنجاز السلف الصالح من القاضيات المغربيات الأُولَيَاتِ، وبخلفهن الناجح من السيدات اللواتي كتبن ويكتبن أسماءهن بمداد القيم القضائية الفضلى، وبأقلام الثقافة القانونية الرصينة، المزينة بمبادئ العدل السامية.
والواقع أيتها السيدات الفاضلات، أيها السادة الأفاضل، أنني لن أكون موفقاً في جرد أمثلة ونماذج للقاضيات الناجحات والمتفوقات، لأنهن كثيرات ويتعذر إحصاؤهن. وأن من ذكرت أسماءهن هن مجرد عينة من هذا البحر المتلاطم الأمواج من القدرات القضائية الخلاقة والكفاءات النسوية التواقة. ولعل من ذكرتُ بالأسماء، كن رائدات وسباقات من بين أخريات في مجالات قضائية معينة، والعذر واجب لمن تم إغفال ذكرهن، فأعمالهن كفيلة بالتذكير بهن. وكلكن، وكلكم تعلمون أن سجل القضاء المغربي لم يفتأ يعرف ازدياد عدد النساء القاضيات. فبعد أن كان بضع عشرات خلال الستينات، ارتفع إلى 304 قاضية سنة 1996 من أصل 2324، أي بنسبة لا تتجاوز 13 %. ثم ارتفع العدد سنة 1998 إلى 375 قاضية من أصل 2641 بنسبة 14.14%. وإلى 592 قاضية من أصل 3153 بنسبة 18.77% سنة 2005. ثم إلى 611 قاضية من أصل 3188 بنسبة 19.16 % سنة 2008. وإلى 683 قاضية من أصل 3352 بنسبة 20.36 % سنة 2010. وإلى 939 قاضية من أصل 3999 بنسبة 23.40 % سنة 2014. لتصبح المرأة القاضية حاضرة اليوم بكل درجات المحاكم المغربية وأنواعها. ويبلغ عدد زميلاتنا القاضيات حالياً 1068 قاضية، بنسبة 25% (885 بقضاء الحكم و167 بالنيابة العامة). من بينهن 55 مستشارة بمحكمة النقض و4 محاميات عامات بنفس المحكمة. تتولى إحداهن مهمة رئيسة غرفة وسبع رئيسات أقسام. كما تتواجد 102 مستشارة بمحاكم الاستئناف (81 قضاء الحكم، و21 النيابة العامة). و707 قاضية بالمحاكم الابتدائية. (581 قضاء الحكم و126 نيابة عامة). و21 قاضية بالمراكز القضائية (19 قضاء الحكم و2 نيابة عامة). و13 مستشارة بمحاكم الاستئناف الإدارية. و30 قاضية بالمحاكم الإدارية. و17 مستشارة (قضاء الحكم) بمحاكم الاستئناف التجارية (1 نيابة عامة). و71 قاضية بالمحاكم التجارية (58 قضاء الحكم و13 نيابة عامة). بالإضافة إلى 47 من القاضيات ملحقات بمصالح إدارية ومجالس ومؤسسات وسفارات.
وبالنظر لهذا الزخم المهني الغزير والجرد العددي المشرف، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، المعتز برئاسة جلالة الملك له، يعتبر الاحتفال باليوم الدولي للمرأة القاضية في أول سنة بعد اعتماده من طرف الأمم المتحدة، مناسبة سانحة للاحتفال بكل القاضيات المغربيات، والإشادة بإنجازاتهن المشرفة، وعطائهن الخصيب للعدالة، وإسهاماتهن القيمة في ترسيخ مبادئ العدل والأمن القضائي. كما أنها مناسبة للتذكير برؤية المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تشجيع المرأة القاضية للتباري على مناصب المسؤولية القضائية، تنفيذاً للدستور والقانون المغربي، واستحضاراً للإجراء 37 من المخطط الاستراتيجي للمجلس، الذي ينص على “السعي نحو المناصفة في إسناد المسؤوليات مع مراعاة الكفاءة وتكافؤ الفرص”. وهو توجه يسعى المجلس إلى تشجيعه بالنظر لما أبانت عنه القاضية المغربية من كفاءة قانونية متينة، وقدرات مهنية عالية. وكذلك لأن حضور المرأة في السلك القضائي يعتبر مسألة في غاية الأهمية، لمكانتها الأساسية ضمن مكونات المجتمع، وتكريساً لمبادئ الدستور في المساواة بين الجنسين والمناصفة المهنية في النوع، وتكافؤ الفرص بين المواطنين. بالإضافة لما لهذا الموضوع من تداعيات اجتماعية هامّة، تجعله محفزّا للجيل القادم من الشابات على تحقيق أهدافهن وأحلامهن في تولي مناصب قيادية في وطنهن.
لكل هذا، وباسم المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ونيابة عن كافة قضاة المملكة السعيدة، أسعد بتقديم أحر التهاني لكافة النساء القاضيات المغربيات.. وكافة القاضيات بالعالم، في يومهن الدولي. وأشكر قاضياتنا على ما قدمنه، وما يقدمنه للقضاء الوطني من جليل الخدمات، متمنياً لهن النجاح والتوفيق في مهنتهن، والاستقرار والسعادة في حياتهن.
وأتشرف بأن أهدي لورود القضاء الحاضرات معنا اليوم، وروداً يانعة، اعترافاً من المجلس الأعلى للسلطة القضائية بقدركن، وامتناناً لكن على جهودكن..
وهل تستطيع ورود تذبل في بضعة أيام، أن تعبر لكن عن هذا الامتنان. وعملكن يدونه تاريخ القضاء ولا يذبل عبر الزمن؟؛
وهل تصلُح ورود يندثر شداها بعد لحظات، للوفاء لجهودكن التي يستعصي شداها عن النسيان؟؛
وهل يمكن لعطر وردة وأريج زهرة، أن يعطر هاماتكن الشامخة، وعطركن تفانٍ وعملٍ تشهد به جلسات الحكم، وأريجكن علم وعدل تتنفسه ملفات تنوء بحملها الجبال؟.
أكيد أن كل ورود الدنيا لا تكفي للتعبير لَكُنَّ عن امتنان المجلس، والوفاء لجهدكن بالعرفان. وَلَكِنَّ قيمة الوردة المهداة لَكُنَّ تكمن في رمزيتها.. فهي رمز للحسن والجمال والرقة والدلال.. جديرة بمن هن روح الحسن وجوهر الجمال ومعهد الرقة ومكمن الدلال.
الورود تهدى للنساء في أجمل المناسبات وأحلى الأعياد. وهذا عيدكن.. وكل عيد يُحتفى بكن هو يوم سعادة لكافة زملائكن القضاة. وأنتن من تصنعن السعادة حولكن. فشكراً لكن حضرات السيدات القاضيات المحترمات. وكل عيد وأنتن سعيدات.
والسلام عليكم ورحمة الله..
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.