… أصبحت الحياة تلازمها الكآبة منذ الانفصال التطوعي التباعدي بين أسيف ونوارة، تلحظ لحية أسيف قد أسدلت طولا بغير تنسيق ولا تشذيب ، تلحظ أن مسكن أسيف أصبح كمعتقل تازمامرت بالإغلاق المتناسي. إنها وصفة السكونية المكانية التي حولت المكان إلى أبعاد فراغ قاتل لكل نشوة حب الحياة . بيت حوله أسيف عنادا وركوبا لسرج الحب المغيب إلى مشكلة تخلخل تفكيره بالبدائية الأولية.
جلس أسيف قبالة نافذة مغلقة، لا أدر مدى تقابلية وجهه بالقرب من النافذة، و لا عن مستوى النظر بالأبعاد المستقيمة، وما مدى فسحة الرؤية بالاتساع و العمق. لكن حينها عرفت أنه كان يستعملها كمرآة عاكسة لصورته بضبابية وجه ملمحه الباهت. لحظة رن الهاتف، وكعادته تبع أسيف الصوت مهتديا إليه، إلى أن وجد هاتفه تحت لحاف غطاء سرير نومه. العادة سكنته فهو لا ينظر إلى إسم المنادي بل يجيب وفقط. ألو من معي؟ الصوت الآتي من بعيد عرفه أسيف من بحة صوته الذي أفسده دخان السجائر، عرفه من العبارات الأولية للحديث، من الوفاء إلى مطلع استحضار أطلال مصطلحات الصبا الماضية الجانبية، إنه صوت صديقه الطيب . بعد ديباجة التحية، وأدب أهل مكناسة بالإفراط والتفريط الإطنابي. زف له دعوة حضور زفافه. دون تردد قبل أسيف الدعوة بكل فرح وأدب المتمنيات بالسعادة والرفاه والبنين، ووعد صديق طفولته بالحضور والهدية المناسبة.
لحظة توقف خط المكالمة بعد سنة التوديع والأدعية بالصالح والخير. فيما تفكير أسيف فقد كان صوب حبيبته نوارة مباشرة. حينها تخيل نوارة تشد على يده اليمنى برفق من منتهى الأصابع، إنه إحساس لازمه بالتمني إلى حد أنه أغمض عينيه وأتاح لذاكرته صنع صورة توليفية للحظات عيش ولو في مخيلة زمن أسيف الضيق.
من عادة أسيف أنه لا يرفع عينيه علوا، من عادة أسيف قلة الحديث عن مشاعره وتفسير مدى حبه بالتمام وتعلقه بنوارة، حينها تذكر مقاطع من أبيات شعرية صار يرددها دون أن ينفث الصوت سماعا على مستوى الجوار” للمرة الألف أحبك ، للمرة الألف أعلن حبي إليك نوارة… كيف لي أن أفسر ما لا يفسر..” انتهت تمتمته بالتلاحق والتكرار وبمتمها ابتسم أسيف وحيدا، وقبل علوا جبهة نوارة في بخار زجاجة النافذة ، تاركا بصمة شفاهه رسما ظاهرا.
أي حب يربط أسيف بنوارة ؟ أية علاقة توثق العشق الحلولي بين قلبين بعيدين ؟. سمع صوت خرير ماء بحمام منزله كسر عليه خلوة تفكيره وحضور نوارة ببيت تفكيره. ترك نوارة وهي تتلذذ بقبلته على جبين النافذة المحصنة منذ البدء الأولي بالسياج الحديدي… بالحمام تذكر أنه كان ينوي الاستحمام قبل الخروج، لكن في ظل تكسير الماء لرؤية نوارة قرر الخروج من البيت دون استحمام.
ترك أسيف بيته التازمامارتي المحصنة بالأقفال والشبابيك الموصدة وخرج إلى الشارع. أول خطوة من درج المنزل نظر إلى السماء. إنها سماء موسم خريف والأوراق الصفراء المتناثرة أرضا، غيوم متقطعة مارة بعلو السماء. مع مرور نسائم رياح خريف ليست بالباردة، نفت أسيف آخر دخان من سيجارته كان ساكنا بصدره، وتيمن المشي دون مقصد محدد ولا اتجاه قبلي وارد.
إنه الحب الذي طوح بأسيف أن يتيه بين دروب ومعالم مكناس، بين أزقة شعبية أعلنت مرارا احتضارها و ممات معالمها التاريخية. رائحة أولاد الشعب وبناته أسكنته جنان فردوس وراحة، هو أسيف ابن الشعب ، هو أسيف الذي كانت نضالاته الجامعية ضمن اليسار الجدري. اليوم العطالة السياسية والفكرية تسكنه، ونوارة لا يعلم مكان تواجدها. اليوم حلقات النضال الوفي للوطن للطبقات الشعبية أصابته الردة عن قضايا الوطن الكبرى بالعوز والنكوص. غير ما مرة مشى أسيف ضمن حواري المدينة القديمة ، غير ما مرة يتذكر كل معالم الإنسان والوجوه المكناسية قبل الأسوار والأبواب، يتذكر الوجوه التي صنعت الفرجة وتحف مكناس الخالدة. إنه مكناس يقول أسيف في صدره، مكناس مكة أسيف الافتراضية التي يطوف بين أقطابها من سيدي عمرو بوعوادة وصولا إلى باب الجديد والشيخ الكامل ، بانتهاء سيدي سعيد. إنه مكناس الذي لن يكون سعي أسيف فيه بالتلبية والترديد ، بل بحضور الماضي الذي ما آنفك يمضي والحاضر الذي ما فتئ يجيء.
في خطوة غير محسوبة بالنظر، سقطت رجلاه في فجوة صغيرة فآلتوت ولم يتقبل أسيف الألم البسيط الذي أحس به وزاد من عذابه . وقف ولم يرفع حتى نظره لمن يوجد حوله، إلا من أصوات تقول ” الحمد لله على سلامتك”. في قرارة نفسه لعن أسيف السياسة والسياسيين والقائمين على تدبير شأن المدينة.
استمر في السير وهو يجر رجله جرا إلى أن وصل إلى متسع مطل على جنان وجه عروس. جلس أرضا راميا جسمه بثقله على ما تبقى من عشب ربيع يابس، وأرخى النظر بمتسع بروز مقدمة جبال الريف و دواوير المولى إدريس المتباعدة. تتلاحق في مخيلته فقط التسمية “وجه عروس” إنها الرومانسية المكناسية القديمة التي تنقلك من متسع العراصي الخضراء إلى وجه العروسة الطافح بالأمل والخدود المتفتحة بنوارة شقائق النعمان.
صوت سيارة بمنبهها الأجش، جذبه من متلازمة تفكيره الداخلي إلى الحقيقة الماثلة أمامه دخان مطارح النفايات عند طريق سيدي قاسم. لكنه عرج بوجهه جانبا على اليمين وتخيل حضور نوارة من بين أغراس “وجه العروس” ، تخيل حبا قادما يعانقه بقوة، تخيل نوارة بجمالها وبعيونها العسليتين تتأمل نظراته الواثقة، تخيل تلك الأنثى الهيفاء تشده بقوة تجذبه إلى القرب من خصرها ، تطوح به أرضا….طال التفكير والرسومات المتحركة بالتخيل، و أسيف لم يلملم منه أي شد حقيقي على نوارة، أذان صلاة المغرب رفع أولا من صومعة باب التيزيمي ، مسجد شهداء جمعة الردم ، حينها رفع يديه إلى السماء داعيا. من بعيد فهمت دعواته بالتردد، فهمت أن أملا حاضرا بالإتيان المتأني ستتكرر لعبته، ولن تستطيع نوارة الابتعاد مرة ثانية من أسيف.
محسن الأكرمين.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.