اطلعت على فحوى بلاغ لصحيفة مغربية يُبرر سبب وقف التعامل أو تجميد مهام صحافية بسبب انتمائها السياسي،الذي،من وجهة نظر الجريدة اليومية ،لا يتماشى وتوجهها و “مصداقية” الصحيفة و” الالتزام بأخلاقيات المهنة”وقواعدها التي تشكل “الموضوعية” أحد مبادئها الأساسية..
حاولت شخصيا فَهم الأسباب الظاهرة الكامنة وراء تجميد مهام الصحافية المعنية إلى غاية نهاية الاستحقاقات الانتخابية لأُقنع نفسي أولا، وثانيا لأُبرر احتمال قيام وسائل إعلام رسمية وغير رسمية بالقرار ذاته،الذي على ما يبدو يُحاكم نية الصحافيين ولا يمت الى دستور البلاد بصلة الذي يضمن حرية الانتماء والتعددية و لا الى الأعراف الديموقراطية،وثالثا لأن الانتماء السياسي لا يقوض عمل الصحافي الذي يشتغل في منبر أو وسيلة إعلامية وهو الُملزم بخطها التحريري لأداء مهامه ولكنه غير مُلزم بالتوجهات السياسية للمُشغل ،والمُشغل قد تكون الدولة وقد تكون الأحزاب ويكون الخواص بمختلف خليفاتهم السياسية والاقتصادية والفكرية ومرجعياتهم ونواياهم التي لا يعلمها إلا الله .
قرار الصحيفة لها كل الأحقية والصلاحية في اتخاذه ولا أحد له الحق أن يجادلها في حيثياته وهي التي قد تكون لها أسباب لا علم لنا بها و لسنا في مستواها حتى نعيها تماما ونفهمها بإحاطة كاملة..لكننا نتحدث هنا عن “المبدأ” الذي تبنته الصحيفة والقاضي بإبعاد كل صحافيي منتمي،وأنا الذي أعرف أن الكثير من صحافيي الصحيفة الذين ينتمون الى أحزاب سياسية ،بل ويترشحون باسمها ويُعدون من خيرة مناضليها ومسؤوليها السياسيين ،ويُقدمون الإضافة للشأن العام وللمؤسسات المنتخبة وللعمل السياسي الناضج ،وهم بلا شك مثال في المُواطَنة الإيجابية .
وكيف لي أنا شخصيا أن أفهم وأتفهم القرار الصادر عن الجريدة وأنا قد ربطتني،على سبيل المثال،عقود من الزمن مع وكالة المغرب العربي للأنباء ،المؤسسة شبه العمومية التابعة للدولة المغربية والتي تتعامل مع كل الأحزاب المغربية من الوازنة الى الصغيرة غير واسعة الانتشار والحضور الشعبي بنفس القدر من الاهتمام ،وهي الوكالة التي أتيت إليها بعد اجتياز مباراة الالتحاق من صحيفة مغربية هي لسان حزب وطني وكنت آنذلك قياديا بإحدى المنظمات الشبابية وأنتمي الى النقابة الوطنية للصحافة المغربية ،وكان الكل يعلم بانتمائي السياسي ..ورغم ذلك كلفتني الوكالة بمهام رسمية في غاية الحساسية والأهمية وتغطية أنشطة أحزاب تختلف قناعاتي عن قناعاتها تماما ،وتحملت مسؤوليات عليا داخل الوكالة داخل المغرب وخارجه ..
ولست أنا الوحيد المنتمي لحزب من الأحزاب داخل الوكالة ،فهناك زملاء كُثر من أقصى اليمين الى أقصى اليسار بل منهم من كان من المعتقلين السياسيين سابقا ومنهم من انتمى الى منظمات لا تنظر إليها الدولة بعين الرضا،لكنهم أدوا مهامهم على أحسن وجه ،بل ويُشهد لهم بالنزاهة التامة ولهم سمعة طيبة في الأمانة والصدق ولهم سيرة مهنية متميزة و نقية بالأساس،دون الحديث عن تمتعهم بالكفاءة العالية والنزاهة .
ونفس الشيئ يخص أيضا صحافيي القنوات والإذاعات التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة ، الذين منهم من ينتمي الى أحزاب مغربية ويمارسون العمل السياسي والنقابي كما هو مخول لهم قانونيا ،ومنهم من الأسماء البارزة في المشهد السياسي الوطني والإعلامي في ذات الوقت ..
كما يخص الأمر صحافيين يشتغلون بصحف ورقية،بما فيها الصحف الناطقة باسم الأحزاب المغربية ،ولا ينتمون بالضرورة لتلك الأحزاب ويؤدون مهامهم على أحسن وجه ،فهل ستضظر تلك الصحف لتوقيفهم،بشكل دائم أو مؤقت ،..؟ أم أنها ستتعامل معهم كمهنيين يؤدون ما عليهم من واجب احترافي في إطار وأخلاقيات المهنية المصونة ،و المعمول بها في سائر دول العالم الديموقراطي ،وأعلم ذلك من خلال اشتغالي الصحافي في أكثر من 30 دولة ..
لكل مؤسسة إعلامية الحق في اختيار توجهاتها واتخاذ القرارات ،الظرفية أو غير المحددة زمنيا أو الدائمة، التي تناسبها ..لكن ما يخيفني أن تصبح مثل هذه القرارات مرجعا معمولا به في سائر وسائل الإعلام ،وحينها سنعيش عطالة الصحافيين كلما اقتربت الانتخابات و”التهمة الجاهزة”: الانتماء السياسي والنقابي والخوف من “تأثير ” قناعات الصحافيين المعنيين وانتمائهم السياسي على مهامهم المهنية وتجاوز الخط التحريري الذي يشتغلون في إطاره ،وهي “بدعة مُحدثة ..وكا بدعة ضلالة ” لم يحصل لي شرف معايشتها في أي زمن من الأزمنة وفي أي مكان من جغرافية العالم الفسيحة .
أخشى أن تكون هذه المبادرة” المُتفردة” و” المُبدعة ” بداية عهد جديد في التعاطي مع الصحافة والصحافيين لنُكرس سلوكا مهنيا يمس تميزنا في ممارسة مهنة شريفة لا تسمى اعتباطا ب”السلطة الرابعة” ،ونحن لا نتحدث عن الدور الرقابي لها على السلطات الأخرى التقليدية وإنما نقصد كونها بمثابة صلة وصل بين الحكومة والمواطنين وتَطلع بدور أساسي في تشكيل الرأي العام وتعميم المعرفة وتحقيق التنمية في كل تمظهراتها .
وأرجو أن لا يكون سبب “تجميد” مهام الصحافية المعنية إلى غاية نهاية الاستحقاقات غير ما هو مُعلن ،أي انتمائها السياسي،حتى أطمئن شخصيا على زملائي في باقي وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية،مخافة أن تسير تلك المؤسسات الصحفية والإعلامية على نهج الجريدة،التي لها مُبرراتها وقناعاتها،والتي لا أستوعبها وأنا فقط صحافي لا يجرني الى الكلام عن الصحافة إلا الغيرة والتلهف على ما فات والحسرة ..ونحن نتقاعس في الدفاع عن مهنة اعتبرت “مهنة نبيلة ” و”لسان حال المجتمع “
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.



