“تقرير إلى الهدهد”، هو عنوان الرواية الجديدة للروائي شعيب حليفي، عن منشورات السرديات بالدارالبيضاء، في 206 صفحة، وتُقدم رواية سردية جديدة تنفتحُ على رحابة التخييل المحلي المشدود إلى صمت العالم السفلي بكل إرثه الساخن، تنهض فيها أصوات الحياة المنسية منسابة في حكايات قادرة على التخفي والظهور وعبور الزمن في صور لشخصيات تحمل ذاكرة- لم تفقد زخمها في مواجهة مصائرها- عَبَرت بين طبقات وممرات وأنفاق، نحو راهن يئنّ تحت أوزار نسيانه، يطلّ من بين الشقوق بوصفه صوتا هادرا.
لا تستعير الرواية خيالها من أحد، ولكنها تنسجه من سماد الخيالات المنسية، وتستخرج من أعماق الأرض والذاكرة الشعبية صورا لم تُكتب من قبل، بلغة مقطّرة ومتوثبة، شعرية في إيقاعها، متجذّرة في التراث الشعبي المحلي، تبتكر عالما تتجاور فيه عوالم الحقائق والاحتمالات عبر شرفة الحلم وخياراته الكثيرة، في صياغة جديدة لمعنى التخييل بابتكار أفق يتخلّق من صمت الأزمنة وصدى الحكايات المطمورة، التي تستكشف المدهش الذي يحيا بيننا.
يقوم السرد على خلق ممرات بين الأحلام والأحداث كما تُروى، فتتخلّق صورة ثورة من جبل إيروكان (مولاي بوعزة) إلى أزمور، حيث يتلاقى حدّو وأسکور وغيثة والنمري كما رآهما آدم القدميري، كلّ منهم يشكّل خيطا في نسيج التراجيديا واليوتوبيا. إنهم رجال ونساء يصوغون قدرهم بالمقاومة، حتى وهم يواجهون الخيانة والفقد والموت، ليؤكدوا أن ما ينهض من الجبل ليس مجرد ثورة عابرة بل روح ممتدة في الأجيال.
التوزيع: دار الثقافة بالدار البيضاء. دار الأمان والفية بالرباط.
مقطع من الرواية(ص 150):
لم يتوقف تبادل التراشق بالرصاص لسبع ساعات متواصلة في مشهد لم يكن ضمن الاحتمالات المنتظرة لدى الطرفين، لكن المصادفات الطائشة واللاهية في تلك المساحات المستفيقة من سباتها على اشتهاء عارم للثأر، تأبى أن يمر حدث، مثل هذا، دون أن يكون لها فيه نصيب، فمع ارتفاع آذان الغروب بصوت قادم بصداه المرتعش، من بعيد، لفقيه غافلته الوحدة، من خلف تجويف هضبة مكسوّة بأشجار بدت أوراقها رمادية شاحبة. في تلك اللحظة، اخترقت أربع رصاصات صدر محمود الذي سقط خلف البئر ودماؤه تسيل كأنها نهر فاض من بركان. بالقرب منه، رفيقه سلميان الذي ذُعر وسالت دموعه وهو يصرخ جاثيا بجواره، في الذين أردوْا رفيقه وقائده قتيلا، لكن محمودا استجمع رمقه المتبقي، مثل شرارة من السماء، وأشار له وهو يهمّ بجرّه من يديه إلى الداخل، أن يتوقف ويستمع إليه.
قال محمود بصوت حازم:
– كنتُ دائما أتوق إلى لحظة الموت السامي وأنا في لُجّ الثورة..ولطالما رأيتُ حياتي التي تمنيتها في موتي بمثل صيغتها المدهشة هاته. كان يرعبني أن أشيخ بالهمّ والصمت والاستسلام. أنا سعيد وحزين. وتذكّرْ يا رفيقي.. أنه بعد سنوات قليلة، من هذه اللحظة، سيأتي الذين باعونا أو تواطؤوا بالصمت والسكوت، أو حتى من بعض من هم معنا اليوم، ليأخذوا فدية موتنا مناصب صغيرة جدا وضيعات مهجورة. وهم من سيتكلفون بصنع القوالب والقوانين واللجن والجمعيات من أجل رواية محبوكة للأحداث التي تجعلنا خارج الزمن، وسيعتبرون أن ما حدث هو من أخطاء الماضي التي اقترفناها ولا تستحق سوى النسيان، لأن الاستسلام الذي سيسمونه سلاما، لا بد له من ثمن، وليس هناك شيء أغلى من الذاكرة ودمنا.
– لا تقل هذا… ستعيش وترى الثورة تطلع من الأرض إلى السماء.
– لماذا نحن حالمون بإفراط وتفريط!!
– ما العمل يا رفيقي؟
قال محمود وهو يحدق في عيني سليمان مبتسما، قبل أن يلتفت نحو رفيقهما بيهي الذي كان بعيدا عنهما، خلف صخرة صمّاء:
– ماتت ثورتنا في الأرض فلنعشها في السماء !
ثم أسلم الروح، والرصاص الطائش يتطاير إلى جانب صراخ الحيّاحة، نهض سليمان، بعدما تيقّنَ من موت رفيقه، وقد صار مكشوفا في مرمى القنّاصين المتربصين خلف كثافة أشجار قصيرة، صارخا وهو يكرر جملة رفيقه الأخيرة والرصاص يخترق كل جسمه النحيل: ماتت ثورتنا في الأرض فلنعشها في السماء !
لم تتوقف الأمطار عن الانهمار بضربات قوية تندفع متفرقة قبل أن تنتظم في أودية وممرات تبحث عن نهر كبير ترتمي في أحضانه.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


