حين يعبر المغرب البحر: الافتخار بتمغربييت في إسرائيل

abdelaaziz617 أكتوبر 2025Last Update :
حين يعبر المغرب البحر: الافتخار بتمغربييت في إسرائيل

بقلم: محمد اكن

منذ أن غادرت القوافل الأولى من يهود المغرب شواطئ الدار البيضاء وطنجة والصويرة، كان البحر أكثر من مسافة مائية تفصل بين ضفتين؛ كان امتحاناً للذاكرة. هناك، على الجانب الآخر، في مدنٍ جديدة بملامح عبرية ولهجات مختلفة، لم يمت المغرب في قلوبهم، بل استيقظ في كل صباحٍ من لهجاتهم، وفي رائحة الكسكس التي تعبق بيوتهم يوم الجمعة، وفي أنغام العود التي تُعيد إلى الذاكرة زمن فاس والأندلس.

لقد عاش اليهود المغاربة في إسرائيل تجربة فريدة في علم الاجتماع الثقافي، إذ حملوا معهم الوطن لا بوصفه جنسية، بل هويةً داخلية متجذّرة في الروح. فبينما ذابت جاليات أخرى في المحيط الإسرائيلي العام، ظلّ المغاربة يعيدون تشكيل ذاكرتهم الجماعية كمن يصلّي من أجل ألا تبهت ملامح الوطن في المنفى. اللغة، والزي، والموسيقى، الاحتفال، والمائدة التي صارت علامات رمزية لحضورٍ متجدد لبلدٍ لا يغيب عن القلب.
في الأعراس التي تُقام اليوم في أشدود وبئر السبع، تُسمَع الزغاريد المغربية بلكنة فاسية أو مراكشية، وتُعجن الحناء كما كانت تُعجن في أحياء المغرب العتيقة، وتُؤدّى أغاني الملحون والعيطة والأندلسي على إيقاع الطبول نفسها التي رافقت العرسان قبل عقود في مراكش ومكناس. هذه الطقوس لا تمثل مجرد حنينٍ إلى الماضي، بل استعادةً رمزية للذات. فالعُرس في المخيال المغربي ليس حدثاً عابراً، بل فعل وجودٍ يؤكد أن الحياة أقوى من الغياب، وأن الذاكرة قادرة على تحويل الحنين إلى استمرار.
في الموسيقى أيضاً، ظلّ صوت المغرب حاضراً. كثير من الفنانين الإسرائيليين من أصول مغربية أعادوا إنتاج الأنغام الأندلسية في قوالب حديثة، فامتزجت النغمة المغربية بالآلات الغربية لتخلق لغة موسيقية هجينة تعبّر عن ما يسميه كلود ليفي-ستروس بـ«الهوية المركّبة»؛ هوية لا تنكر الأصل، لكنها تجدده وتمنحه حياة أخرى. ومن رحم هذا التفاعل، وُلدت أغانٍ تشهد على أن التراث لا يموت حين يُغنّى من جديد.
أما احتفال “ميمونة”، فهو الفصل الأكثر دلالة على خلود الذاكرة المغربية في المنفى الإسرائيلي. إذ تحوّل من طقسٍ منزلي صغير يُقام بعد عيد الفصح إلى احتفال وطني رسمي، يحضره سياسيون وشخصيات من مختلف الاتجاهات. في “ميمونة” تُقدَّم الحلويات المغربية، وتُرفع الأعلام، وتُفتَح البيوت كرمزٍ للضيافة والفرح. ليست “ميمونة” احتفالاً دينياً فحسب، بل نصّاً ثقافياً يعيد كتابة العلاقة بين المغرب وأبنائه اليهود بلغة الودّ والاعتراف.
هذه الاستمرارية ليست مصادفة، بل تعبير عن قوة الهوية المغربية التي استطاعت عبر القرون أن تتجاوز الانقسامات الدينية والجغرافية. فاليهود المغاربة في إسرائيل لم يقطعوا الصلة بوطنهم الأول، بل جسّدوا فكرة أن الثقافة أوسع من السياسة، وأن الانتماء الحقيقي لا يقاس بالمكان، بل بالقدرة على حفظ الذاكرة في القلب. ولهذا لم يكن غريباً أن تتجدد في السنوات الأخيرة الجسور بين المغرب ويهوده، من خلال زيارات روحية إلى أضرحة الحاخامات، ومهرجانات موسيقية تُعيد وصل ما انقطع، ومشاريع ثقافية مشتركة تترجم هذا الانتماء المشترك إلى فعل حي.
من منظورٍ سوسيولوجي، يمكن النظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها مثالاً على ما يسميه بيير بورديو “الهابيتوس الثقافي” — أي ذلك المخزون غير المرئي من العادات والرموز الذي يوجّه السلوك ويمنح للهوية استمراريتها عبر الزمن. فاليهود المغاربة في إسرائيل لم يحافظوا على تراثهم بوصفه فولكلوراً جامداً، بل كجزءٍ من رؤيتهم للعالم، وكذاكرة جماعية تُعيد صياغة الذات في مواجهة النسيان.
هكذا يتضح أن الهوية، في جوهرها، ليست قيداً على الانتماء، بل مساحة حرة للوفاء. فحيثما يُغنّى “يا بنت بلادي” أو تُعزف نغمة أندلسية على العود، هناك مغربٌ آخر يولد في المنفى، يذكّر بأن الأوطان لا تُختزل في حدود الخرائط، بل في قدرة أبنائها على جعلها تعيش في الذاكرة.
لقد عبر اليهود المغاربة البحر، لكنّ المغرب لم يعبر منهم. بقي في كلامهم، في أغانيهم، في صلواتهم، وفي نظرتهم الدافئة إلى العالم. بقي كوطنٍ رمزي يسكن القلب أكثر مما يسكن الأرض. ومن خلالهم، تعلّمنا أن الهجرة لا تُنهي الحكاية، بل تفتح فصلاً جديداً منها — فصلاً عنوانه: حين يعبر المغرب البحر، تبقى الذاكرة حيّة. والاعتزاز عنوانها تمغربييت.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading