عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في ايطاليا
في خضمّ الاحتجاجات التي اجتاحت شوارع عدة مدن مغربية خلال الأيام الأخيرة، برزت ظاهرة مثيرة للقلق: انتشار مقاطع فيديو يُروج لها على أنها توثيق مباشر لتدخل الجيش أو اعتداءات أمنية على المواطنين، أو للتظاهر داخل الجامعات. هذه المقاطع لاقت تفاعلًا واسعًا، لكنها في كثير من الحالات تحرّفت أو أُعيد استخدامها خارج سياقها الزمني الحقيقي. فهل يُعاد تدوير الكذبة لتفجير الاحتقان، أو إضعاف الثقة في المؤسسات الأمنية؟ وما الذي يمكن للمواطن أن يفعله لتمييز الحقيقة؟
تدخل الجيش… بين الزعم والواقع
أحد أبرز الفيديوهات المتداولة يدّعي أن القوات العسكرية تدخلت لفض الاحتجاجات بالقوة المباشرة. لكن تدقيقًا في المصدر كشف أن المشهد لا يعود إلى الأحداث الجارية، بل هو مشهد قديم يوثق استلامًا لدفعة من المركبات المدرعة، كما بثّته وسائل إعلام محلية في وقت سابق، وليس تنفيذًا لعملية قمع. التطبيقات الرقمية لوسائل التحقق بيّنت أن الفيديو لم يُنشر في سياق التظاهرات الجديدة، بل تم استعادته وتداوله من جديد.
هذا النوع من إعادة الاستخدام يُشكّل خدعة إعلامية: خلط بين الواقع القديم والحدث الراهن لغرض تحريض المشاعر ضد الدولة والقوات الأمنية. وهو أسلوب يُستخدم بكثرة في ساحات الصراع الرقمي، حيث يُراد للمشهد أن يبدو كأنه زجّ جديد في الصدام.
الاعتداء على المسنّة… ما بين الحقيقة والتلاعب الزمني
من الفيديوات الأخرى التي لاقت انتشارًا، ذلك الذي يُظهر امرأة مسنة تعرضت لما يُزعم أنه اعتداء من طرف الشرطة أثناء السؤال عن أحد أقاربها. تبين أن الحدث صحيح من حيث وقوعه، لكنه قديم ولا يعود إلى الاحتجاجات الجارية. تم تداوله لأول مرة عام 2017، ثم استُعيد تداوله في هذه الفترة المضطربة.
إعادة استخدام مثل هذا المحتوى خارج سياقه الزمني هو استغلال مأساوي لقضية إنسانية، إذ يُقدم كمثال على القمع الجماعي، بينما الحقيقة أنه حادث من زمن مغاير تمامًا.
فيديو طلاب كلية الطب: تضامن أم استثمار سياسي؟
لم تسلم الجامعات أيضًا من البروباغندا المرئية. انتشر مقطع يُظهر طلابًا يخلعون ستراتهم احتجاجًا. قُيل إنه متعلق بالتظاهرات الحالية، لكن التحقيقات الرقمية أرشدت إلى أن الفيديو يعود إلى أكتوبر 2024، حينما قُيل إنه جزء من حركة طلابية مستقلة خاصة بقطاع الطب. في ذلك الحين كانت المطالب تدور حول تحسين ظروف الدراسة والتدريب، لا التظاهر الشامل في الشارع.
ما يحدث هنا هو محاولة لربط احتجاج طلابي مستقل بالحراك الاجتماعي الأوسع، في محاولة لتضخيم الرسالة أو تبرير حرّكات أكبر.
الأثر الحقيقي لهذه التضليلات الرقمية
إضعاف الثقة: عندما يُعرض للمشاهد أن القوات الأمنية تعتدي على النساء أو يُدفع الجيش إلى الشارع، يُزرع الشك في الدولة ويُضعف الثقة في مؤسساتها.
تحويل الرسالة: بدلاً من التركيز على المطالب الاجتماعية، يتحول النقاش إلى “من ضرب من ومن تدخل”، ما يقتل روح التغيير.
التجييش والتحريض: المحتوى المفبرك يُستخدم كمادةً تحريضية تُشعل الفتن وتُعبئ الموالين والمعارضين، في سياق تناوُر سياسي.
كيف نصد التضليل ونحمي الاحتجاج المشروع؟
إليك بعض الخطوات التي يمكن أن تُسهم في التمييز بين الحقيقة والدعاية المغرضة:
التدقيق في المصدر والتاريخ: استخدام أدوات مثل “Google Reverse Image” أو “InVid” لمعرفة إن كان المقطع قديمًا.
مقارنته بمقاطع موثوقة: التحقق من أن الحدث مرتبط بالمكان والزمان الحالي.
الاعتماد على وسائل الإعلام الاعتبارية التي تشرح كيف تحقّقت من المحتوى، لا مجرد تكراره ونشره.
نشر التوضيحات من جهات رسمية أو مؤسسات وطنية لتوضيح ما هو حقيقي وما ليس حقيقي.
المغرب اليوم في قلب مرحلة فاصلة في تاريخه الرقمي والسياسي والاجتماعي. الاحتجاج مشروع، المطالب عادلة، والغضب لا مبرّر لتدمير الوطن وسرقة ممتلكات الناس وتخريب وحرق السيارات. لكن استخدام المحتوى المضلل والتحريض الرقمي يُشكل خنجرًا في خاصرة الحقيقة، ويخدم من يُريد أن يزرع البلبلة والفوضى بين المواطنين.
إن قيمة الاحتجاج تكمن في وضوحه، ليس في التشويش عليه. لذلك، من يهمّه الأمر، من جميع المواطنين والمهتمين وخاصة الاعلاميين، يجب أن يقرأ الفيديو كمن يخترق الأكاذيب، لا كمن يتلقّاها على عجل.
في النهاية، تبقى الحقيقة أصدق من أي تزييف، والمشهد الرقمي لن يفلت ممن يُدقّق ويُميّز.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.