مروان هاشمي
في روايته “شبح شفاف”، يفتح الكاتب أسامة رقيعة بوّابة على عالم تتعانق فيه الأرواح مع الظلام، حيث يهمس الموت بالحياة، ويشتبك الواقع بالحلم في رقصة وجودية مشبعة بالدهشة. إنها ليست مجرد رواية، بل مرآة غامضة تعكس قلق الإنسان الأزلي تجاه ما يختبئ خلف ستار الرحيل.
بأسلوب يلامس الشعر، وخيال يتغذى من ذاكرة البحر وأسطورة اللؤلؤ، يشقّ الكاتب طريقه بين أسطر الحياة اليومية ومعارج الماورائيات، فبين ماضٍ يغرق في رمال الأساطير، وحاضر يضجّ بصخب الشركات ومتاهة الحداثة، ينتقل القارئ في رحلة سردية تُوقظ الأسئلة الكبرى: من نحن بعد أن يطوينا الغياب؟ أتبقى أرواحنا هائمة في البرزخ أم تولد من جديد في شكل لا نراه؟
وتنبض الرواية بروح فلسفية ناعمة، لا تعظ بل تُلمّح، ولا تجيب بل تفتح أبواب التأمل على مصراعيها، فهي تسائل العدالة لا كمفهوم قانوني، بل كحقيقة كونية: هل للإنصاف وجه يظهر بعد الموت؟ أم أننا أسرى لعدالة البشر القاصرة؟
ويمزج رقيعة الواقع بالأسطورة، واليومي بالميتافيزيقي، في نسيج لغوي يفيض بالصور والرموز، شخصياته لا تُقَدّم ككائنات ورقية، بل كأصوات تنبعث من الغيب، كأننا نسمعها لا نقرأها، ونشعر بها لا نصفها.
“شبح شفاف” ليست روايةً تُقرأ، بل تجربة تُعاش، إنّها صدى لتساؤلاتنا الدفينة، ورفيقٌ خفي لكلّ من مرّ من ضباب الحيرة، وسأل نفسه: ماذا لو كنّا نحن الأشباح، نبحث في هذا العالم عن أنفسنا؟
في هذه الرواية، لا يتعامل رقيعة مع الغيب بوصفه عالما غريبا منفصلا، بل كامتداد خفيّ لواقعنا، تسكنه أرواح لم تُنصف، وأحلام لم تكتمل، وهكذا فهو لا يكتب عن الموت لينهي الحكاية، بل ليبتدئ منها، متخذا من “الشبح” رمزا لكل ما لم يُقل، لكل من عبروا ولم يفهموا، ولكل الحقائق التي تظل تهمس من وراء الحجاب.
وما يلفت في “شبح شفاف” هو هذه القدرة العجيبة التي أبان عنها الروائي والخبير القانوني أسامة رقيعة، على الجمع بين اللغة العذبة والبنية المحكمة، حيث تتشابك الرموز دون أن تتورط الرواية في الغموض المجاني، وتفتح النوافذ على عالم غائر في الأسئلة دون أن يفقد القارئ خيط التماسك أو متعة التلقي، بل كل جملة فيها تحمل ظل فكرة، وكل مشهد يبدو كأنه تأمل صغير في خريطة الروح البشرية.
تُحاكي الرواية عالما عربيا مثقلا بالتاريخ والحيرة، لكنها لا تكتفي بالسرد المحلي، بل تصنع من هذا الحيز الضيق بوابة نحو تساؤلات كونية، فتبدو الشخصيات كأنها مرآة لقلق إنساني شامل، ولا عجب أن يجد القارئ في سطورها صوته الخاص، أو يلمح في وجوه أبطالها جزءا من ذاته، لأن “شبح شفاف” كُتبت لا لتروينا فقط بحكاية، بل لتفتح فينا نبعا من التأمل العميق، وتثير فينا شهوة السؤال حول المآل…
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.