لا نقول عن الألمان قاطبة إنهم كانطيون أو هيغليون. لا أحد يقر بأن الإنجليز شيكسبيريون، أو بأن الإيطاليين دانتيون. بالمقابل، لانكف ، من جيل إلى جيل، عن ترديد أن الفرنسيين ديكارتيون، مع شعور بالاعتزاز أو الأسى، من أجل المدح أو التأنيب، لكن ذلك (يعاش) مثل بداهة. هذا واقع مكتسب، مكان مشترك: بين ديكارت وفرنسا ثمة تأثير مرآوي، قرابة جوهرية. تلك حقا ظاهرة فريدة من نوعها: شعب بأكمله يتعرف، من خلال فيلسوف وليس من خلال كاتب مسرحي أو شاعر، على خاصيته الوطنية ، عبقريته الخاصة، وهو ما يميز روحه الجماعية. ولأنهم يعتبرون، في نفس الوقت، ديكارتيين، منهجيين، عقلانيين، أقل تهيجا واتقادا، مولعين بالاستقلالية وباللغة الواضحة.
يرى الفرنسيون أنفسهم مدينين لمثل هذه الجاذبية أو هذا النفور. نشدد هنا أو هناك على منطقهم، على إدراكهم للمساواة، لأجل أن نؤنب في موضع آخر فقرهم الروحي وانعدام إنسانيتهم. الروح الديكارتية فرضت ذلك.
هل هذه أسطورة؟ هي كذلك بالتأكيد. لكنها أسطورة لامثيل لها. ما هو القاسم المشترك بين المنجز الفلسفي لديكارت وروح فرنسا، إذا ما وجدت عمليا؟ لا يوجد بينهما شيء من هذا القبيل، نشك في ذلك. من جهة، هناك أمهات النصوص الأساسية لفكر الأزمنة الحديثة، تبدأ ب “خطاب في المنهج” وتنتهي ب “تأملات ميتافيزيقية”، وهي مكتوبة بيد نبيل في عزلة وتركيز ذهني، التجأ إلى هولندا بعد مشاركته في حملة عسكرية. من جهة الروح الديكارتية الفرنسية، هناك مجموعة من الخطابات الأدبية والسياسية والدينية التي تتخذ من صورة معينة لديكارت شعارا وهدفا لها.
كيف تموضع كل ذلك؟ عبر أي تاريخ، معقد، صراعي، سديمي أحيانا، تمكن ديكارت من أن يرمز إلى أمة لم يعش من أيامها إلا القليل؟ بقيت هذه الأسئلة بدون جواب إلى حد الآن. لهذه الأسئلة، خصص فرانسوا أزوفي سنوات من البحث والتنقيب.قرأ نصوصا كثيرة، موزعة على ثلاثة قرون ونصف، حولت ديكارت باستمرار وفي تناوب إلى كالفيني مفسد، مشعوذ، مدافع عن حقوق المرأة، ثوري، ديمقراطي، مبشر بالاشتراكية، عقل يهودي ورمز خالد. بوصفه فيلسوفا ومؤرخا، يسلط الباحث الضوء على خطوط القوة الناظمة لهذه المغامرة الطويلة المتخيلة. ميز بين مراحلها واستمرارياتها وقطائعها. المؤلف الناجم عنها لي فقط “ديكارت عبر القرون” بل يقرأ كاجتياز أخاذ لتاريخ فرنسا الفكري، من العصر الكلاسيكي حتى زمن التحرير، عبر طرق غير متوقعة.
إنه أيضا كتاب/دليل كانت كل الحظوظ بجانبه ليصبح مرجعا. يدشن نمطا في البحث غير مسبوق. إن الدرب الجديد الذي افتتحه فرانسوا أزوفي يخص دراسة حياة الفلاسفة في المخيال الجمعي. في الغالب الأعم، لا شيء يربطه بحرفية نصوصهم أو بأسلوب بناء أنساقهم المفاهيمية. هذه التمثلات، الأساطير والأحكام لها مع ذلك سمكها الخاص. ديكارت يقدم بهذا الصدد مثالا اساطعا.
عند موت هذا الرجل النبيل، سنة 1657،لم يكن هناك شيء يسمح بحدس مثل هذا التماهي الحاد لفرنسا مع أسطورتها. انطفأ في ستوكهولم بعد أن اتهمه لويس الرابع عشر بكونه شخصا رديئا ووصغه اليسوعيون بكونه كاثوليكيا تافها. خمس سنوات فيما بعد، أعلن بلوفان عن فساد فلسفته، اعتبر أتباعه كالفنيين مقنعين، وعد مذهبه سما زعافا. وحدها عشيرة قليلة العدد ونشيطة جدا دافعت عن سمعة المعلم وكافحت من اجل عودة رماده وإشعاع فكره. واختتمت هذه اللحظة الأولى مع نهاية القرن السابع عشر وكان قد ورث (بفتح وتشديد الراء)للأسطورة المقبلة ملامحها الأساسية. إن ذيوع صيت ديكارت لم يتم فرضه أولا عن طريق الوسط المدرسي، كما أن نفذه لم ينجم عن سلطة فكرية أستاذية [لأ نجم بالعكس عن حرية رفض. والأهم من ذلك أن ديكارت جسد بسرعة الحداثة. كل ماهو جديد، حديث، حامل للمستقبل، تم إلحاقه به، او إسناده له.
عصر الأنوار قوى هذه الحركة، لكن بمواربة لافتة للنظر. بطلت أفكار ديكارت وأصبح نسقه متهافتا. فحسب فولتير والموسوعيين، كان نيوتن ولوك محقين في قول ذلك. لكن ديكارت فتح الطريق أمام العلم الذي حاربه. سمح وجوده بتحقيق تطورات رمت بأعماله الخاصة عرض الحائط. ثمة حافز مهم جديد للأسطورة ، يضمن عمرها المديد: موقف ديكارت متميز عن مضمون مذهبه. يمكن أن نقذف بالقدم أوهامه وأن نغرق في بحر النسيان أخطاءه وانحرافاته وأن نلاحظ أن بناءه الدوغمائي ليس إلا أنقاضا وهذا لا يمنع بتاتا من اعتبار هذه الأنقاض مقدسة، والاحتفاء بالبطل، بالعالم المخترع، بالرجل الذي عرف كيف يتجاوز روح الوصاية في المعتقدات ليخضع كل شيء لمحكمة العقل الواحد.
بقي على عبقرية الحداثة هاته أن تجسد كذلك فرنسا وأن تبلور تناقضاتها السياسية. فانطلاقا من الثورة الفرنسية إلى الحرب العالمية الثانية، يحكي فرانسوا أزوفي بفيض مدهش من التفاصيل كيف أن نمط الأحكام التي صدرت في حق الفيلسوف أصبح مؤشرا ملموسا ومحددا على مواقف كل واحد فوق رقعة الشطرنج السياسية. قل كيف ترى ديكارت أقول لك كيف تصوت. كانت الثورة بكل تأكيد مرحلة هامة، انشغلت أساسا بالنزاع الطويل على قبور الأبطال. لكن ينبغي على متطرفي عودة الملكية متابعة ديكارت عن كرههم حتى تأخذ في النهاية كل العناصر أمكنتها؛ الشيء الذي يجسد في نظرهم الحداثة السياسية ، سيادة الفردانية، الديمقراطية والمذهب البرلماني، الفصل بين العقل والإيمان. بعبارة واحدة، كل ما امتدحه فيه الجمهوريون ثم الاشتراكيون فيما بعد.
في ظل الامبراطورية الثانية، مع فيكتور كوزان، فقدت الأسطورة صلابتها. أصبح ديكارت الجزء المركزي من التعليم الرسمي وفي نفس الوقت رهانا سياسيا بين اليمين واليسار. إن شخصه يذكر بشخص فرنسا ذاتها، بمشية فيها بعض التهور والطلاقة. حركة الطلاقة والكونية هاته هي نفسها التي نشطت فيما يعتقد الخطاب في المنهج والإعلان العالمي عن حقوق الإنسان. وعلى امتداد فترة الجمهورية الثالثة، سوف يحكم سلبا أو إيجابا على ديكارت بناء على نسبية القرابة أو العداوة إزاء المثل الجمهورية العليا التي غدا منذئذ متماثلا معها. اختتم هذا البحث الاستثنائي يوم 2 ماي 1946 بالسوربون. أشار الكاتب العام للحزب الشيوعي الفرنسي إلى أن هذا الفيلسوف يسير بنا نحو مستقبل باسم. كلهم جعلوا من ديكارت الشخصية البارزة في فرنسا بدءا بالحركة الفرنسية وصولا إلى الشيوعيين وانطلاقا من الاشتراكيين إلى الليبراليين.
في نهاية هذه الدوامة من الإحالات والاستشهادات، تستحوذ فكرة غريبة على القارئ المندهش أليس لهذا الديكارت الخيالي، أليس لهذه الهواجس أثر حاسم على الواقع؟ بالطبع لا. فما زالت البرامج التعليمية والكتب المدرسية في مادة الفلسفة والمطبوعات العالمية تعتمد عليها بشكل كبير. هل نستطيع أن نميز السمات الحقيقية تحت قناع الأسطورة؟ الأمر مشكوك فيه.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.