إن التجديد، سمة هذه الشريعة، التي بها تستمر إلى قيام الساعة. وقد جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»[1]؛ وفقه الدين، كما أوضحنا في الفصول الأولى من هذه السلسلة، أوسع من الفقه بالمعنى الاصطلاحي. غير أن التجديد، لا يكون إلا ممن بلغ درجة الاجتهاد، في الفقه على الأقل؛ نقول هذا، لأن درجة الكشف تكون دائما أعلى.
ولا بأس هنا، أن نستدل للكشف الذي ينكره مقلدة الفقهاء، بما تحتمله هذه المساحة فحسب. يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]. وهذا يعني، أن العلم الذي تُنتجه التقوى، يكون عن تعليم من الله؛ بغير واسطة من البشر. وفي الحديث القدسي، الذي جاء فيه: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»[2]، إشارة إلى أن علم العبد المحبوب، يكون من الله، بلا واسطة أيضا. وهذا هو العلم اللدني (وهو حقيقة أعلى حتى من الكشف)، الذي جاء فيه قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]؛ في حق الخضر ومن على شاكلته من هذه الأمة. ومن يُنكر علوم الكشف، فقد أنكر أساسا من الدين؛ به يكون الدين ربانيا، من جهة الوارد (النتيجة)؛ بعد أن كان ربانيا من جهة المصدر.
وتجديد الدين على عمومه، يشمل جميع العلوم الدينية، التي ليس الفقه إلا واحدا منها. وعلى هذا، يكون التجديد في الفقه، وفي التفسير، وفي الحديث وغيرها… ويكون التجديد تجديدا للإيمان، من جهة علم التزكية؛ وهكذا… وقد يكون التجديد من واحد أو أكثر، في الزمان؛ لأن “مَنْ” في الحديث اسم نكرة، يفيد الإبهام من جهة العدد. وإن كانت الحقيقة تقتضي، أنه لا بد لكل فن من فنون العلم، من واحد تعود الرئاسة فيه إليه في الزمان.
وإن كانت المذاهب الفقهية المعلومة، قد ساعد على بلورتها، اختلاف البلدان؛ فإن العولمة التي نعيشها، ترفع هذا الشرط؛ وتجعل الفقه يسير في اتجاه الوحدة. علم هذا من علمه، وجهله من جهله. وإن ظروف العصر، ما عادت تسمح بالاختلاف الكثير في الفروع، لتوافر النصوص لكل الفقهاء من جميع الأرض. وهذا يجعلهم -إن وُجدت الأهلية- أقرب إلى توحيد الاستنباط من السابق؛ بشرط غياب التعصب للمذهب. والمشكل، هو أن التمسك بالمذهب، قد أصبح شأنا سياسيا، بسبب إخضاع الدين لسلطة البلد (وإن كان هذا لا يصح من حيث المبدأ). وهذا، يكون عائقا أمام التجديد في هذا الزمان.
نتعجب كثيرا، عندما نجد من فقهاء العصر، من يستميت في الدعوة إلى التمسك بالمذهب، مع كونه أمرا فرعيا منذ نشأته؛ وتأباه الآن ظروف العولمة الحاكمة أيضا، بجانب ذلك. كل هذا غير معتبر عند فقهائنا، وكأنهم يتحدّون الأقدار!.. فأمثال هؤلاء، قد تجاوزتهم المرحلة، وإن بقوا يؤدون أدوارا ثانوية، على مسرح الأحداث. وأما الشباب من الفقهاء، فعليهم أن يستعدوا لبناء فقه جديد، يكون زبدة المذاهب كلها، وقريبا من الشريعة الأم. وإن السمة الغالبة عليه، ينبغي أن تكون الوضوح واليُسر؛ ليُماشي أحوال الناس في هذا الزمان الذي لم يسبق له مثيل. فإن كان الشافعي رضي الله عنه، قد غير فقهه عندما انتقل من العراق إلى مصر، في الزمن ذاته؛ فما القول لو انتقل الشافعي إلى زماننا؟!..
ثم إن استطاع الفقهاء المجددون أن يعرضوا فقههم على ربانيّ في هذا الزمان، فإنه يكون أفضل؛ لأن الرباني يعلم من روح الدين، ما لا يصلون إليه هم أبدا؛ وإن عاشوا أعمارا مضاعفة، بدل أعمارهم. والرباني يكون الله عينه التي يبصر بها. ومن كان هكذا، فإنه يتمكن من رؤية المعلومات وهي في عدمها؛ ومن هنا يستطيع الحكم بسهولة على الآراء الفقهية، ويعلم أيها أقرب إلى روح النص. وقد عرفت الأمة في ماضيها فقهاء أفذاذا، كانوا يعرضون آراءهم على ربانيين أميين!.. من أمثال عبد الوهاب الشعراني، وأحمد بن مبارك اللمطي، وغيرهما… وإن كان هذا مما يكبر في صدور فقهائنا، فإننا نقول لهم: لو لم يكن الدين هكذا، لشككنا في ربانيته من الأصل!..
إن مما ينبغي أن يُعنى به الفقه الجديد، توحيد صور العبادات قدر المستطاع للعامة؛ والاقتصار فيها على الفرائض والسنن المعلومة. وليُترك أمر علم الاختلاف، للمتخصصين دون غيرهم. ورغم أن هذا الأمر سيُلاقي صعوبة في البداية، إلا أنه ما يلبث أن ينتشر في أصقاع العالم؛ خصوصا بين الشباب، وبين المسلمين الجدد.
نحن نرى أن المسلمين الجدد، سيزداد عددهم، إلى الحد الذي سيُنافسون معه، قُدامى المسلمين. ونخص بالذكر من سيدخل في هذا الدين من أمريكا، وأوربا. ذلك لأن شعوب تلك البلاد، تعيش أزمة روحية حادة، لا مخرج لهم منها إلا بالإسلام!.. ورغم أن الأزمة الروحية قد أصبحت تحل بديارنا نحن أيضا، إلا أننا كعادتنا، متخلفون في ردود أفعالنا، بالمقارنة إلى غيرنا من الشعوب. ربما ستعود شعوبنا إلى صحيح التديّن، بعد رؤيتهم للأجانب يُسلمون.
إن رجاءنا -بعد الله- معلّق على شباب الحركات الإسلامية، بعد أن يفقهوا مواطن الخلل الذي كان لدى جماعاتهم؛ لأنه بإصلاح شؤونهم في أنفسهم، سيكونون مُصلحين لمجتمعاتهم في الآن ذاته. وقد راقنا كثيرا عمل حزب النهضة التونسي هذه الأيام (شعبان 1437)، عند إعلانه نفسَه حزبا سياسيا غير ديني. ونحن وإن كنا لا شأن لنا بالسياسة كما تعرفها الأحزاب، إلا أننا نثمّن وعي قيادة النهضة بضرورة الانسلاخ عن القراءة الضيقة للدين. وهذا عمل منهم ينبني على حرص جلي، على توحيد قطرهم أولا، ثم توحيد الأمة بعد ذلك. فجزاهم الله خيرا!..
نحن لا نشك، أن طاقات الأمة كبيرة؛ ينقصها أن تُعطَى قليلا من الحرية والاستقلال فحسب. وهذا أمر إن أُعطوه، كان جيدا؛ وإن لم يُعطَوه، أوجب عليهم العلمُ أن ينظروا من أنفسهم إلى الأصلح، ويعملوا به. وأما ما يكون من الرسميات في اللقاءات والمؤتمرات، فإننا لا ننتظر منه شيئا؛ لكون أصحابه محترفين، قد ألفوا المداهنة والتملق.
ما عاد الوقت يسمح بالمعتاد من اجترار فقه “ألف ليلة وليلة”، وكأن الزمان توقف عندنا في القرون الأولى. إن كان المـُلْكان العاض والجبري، قد عملا على إدخال الدين (في عمومه) في سباتٍ مدةَ قرون، فإن رياح الخلافة على منهاج النبوة، التي بدأنا نتنسمها منذ الآن، تحيي عظامه وهي رميم. نعلم أن ما نقوله، سيصدم شطرا من بني قومنا؛ ولكن الأمور تبدأ دائما هكذا؛ قليلة ومستغربة؛ إلى أن يأذن الله للعامة في أن يتلقفوها.
وأما العقيدة، فلا تجديد فيها؛ لأنها ليست محل تجديد. وهذا هو ما غلط فيه أقوام، فضلوا وأضلوا. وكل ما يمكن فعله في هذا الجانب، هو العودة بالعوام، إلى العقيدة العامة المشتركة؛ وتخليصها من علائق الفكر، التي دخلت عليها، فصيّرتها أيديولوجيا، خارجة عن أصل الدين. وقد تكلمنا في غير هذه السلسلة، عن العقيدة وكونها أمرا فرديا، له صلة بمدى تحقيق العبد القرب في نفسه، لا بما يتوصل إليه من عقله؛ فلا حاجة إلى التطويل به هنا.
إن الأمة -وقد بدأ بعض شبابها في نبذ الدين- لا ينبغي أن تُترك حتى يصير الأمر لديها، ظاهرة غالبة. وإن ما ينفّر الشباب من غير شك، تقديم المذاهب (الفقهية والعقدية)، على أنها الحق المطلق، في مقابل نظرائها. إن الشباب، منطقيون في ردود أفعالهم، وإن كانوا لا يلتزمون بالأصول أحيانا. وإن سجن من يسيء التعبير في إرادته التغيير، كما حدث في مصر، لا يكون حلا ناجعا في إسكات المعارضة الفكرية للمذاهب؛ بل إن هذا، وفي هذه المرحلة، سيجعل آخرين ينضمون إلى صفهم.
ومن يتأمل في الحركات الاجتماعية السياسية في العالم، سيلاحظ “صعود” التيارات اليمينية في مختلف البلدان. وهذا يدل على أن تلك البلدان تريد أن تقوي منعتها، في مواجهة الثقافات التي تراها دخيلة. والأمة الإسلامية، ينبغي أن لا تُحرم من هذا الحق هي أيضا، لتتمكن من مواجهة الهيمنة، التي تتزايد عليها يوما بعد يوم. ولسنا نعني باليمين عندنا، التطرف كما هو عند غيرنا؛ بل اليمين عندنا اعتدال، بعد تطرف التفريط. وعلى الحكام في بلداننا، أن يعوا هذا، ولا يقفوا في وجه شعوبهم؛ حتى لا تزداد الهوة بين الحكام (جميع المسؤولين) والمحكومين اتساعا.
وأما إن وفق حكامنا إلى تجديدٍ سياسي يوافق روح الشريعة بصورة معاصرة، يقلل من أضرار فترة ما قبل الخلافة على منهاج النبوة؛ فإنه يكون عملا عظيما، يلقون به الله في صحائفهم، يوم لا ينفع منصب ولا جاه؛ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
(1). أخرجه أبوالحاكم في المستدرك، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) . أخرجه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.