أثارت بعض المنابر الإعلامية في الآونة الأخيرة مسألة تسيير بعض مؤسسات التعليم العالي بالنيابةنقاشا عميقا بين أوساط الجامعيين وكل المهتمين بالشأن الجامعي لما له من تداعيات خطيرة على المردودية البيداغوجية والإنتاج العلمي والحكامة الجيدة في التسيير والتدبير. وإذا كان هناك تضارب في تحديد الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة الغريبة على تاريخ الجامعة المغربية، فمن المؤكد أن الخاسر الأكبر في استمرارية هذه الظاهرة هو الجامعة المغربية في أبعادها ومستوياتها المختلفة محليا ودوليا.
ولإبراز خطورة هذا الوضع على تسيير بعض المؤسسات الجامعية، وانعكاساتها السلبية على التكوين والبحث العلمي، فمن المفيد رصد عينة من عينات تسيير المؤسسات الجامعية بالنيابة ويتعلق الأمر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، مع التركيز في هذا التقرير على واقع البحث العلمي في هذه المؤسسة في ظل التسيير بالنيابة، على أن يتم معالجة التكوين البيداغوجي وواقع الحكامة وقضايا أخرى لاحقا.
من المعلوم أن كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس قد راكمت منذ تأسيسها تجربة هامة في مجال البحث العلمي وبنيته التحتية بفضل دينامية أساتذتها الباحثين الذين انتظموا في بنيات بحث في إطار إعادة هيكلة البحث العلمي بالجامعة، مما أسفر عن تكوين مختبرات وفرق بحثية في شتى حقول الآداب و اللغة و العلوم الإنسانية، نجح باحثوها في جعل الكلية تتبوأ مكانة محترمة في ترتيب المؤسسات الجامعية من حيث الإنتاج العلمي، مما أهل الكلية لتحتل مكانة محترمة ضمن المؤسسات القليلة التي تجاوز أساتذتها الباحثون عتبة 50 % من حيث الإنتاج العلمي، وفق ما أورده تقرير تقييم المنظومة الوطنية للبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية. غير أن هذه الدينامية في الإنتاج العلمي عرف تراجعا حادا ، وعلى جميع المستويات في السنوات الأخيرة مما جعلها نموذجا للإفلاس البيداغوجي والانهيار العلمي، والعشوائية في التدبير والتسيير.
وبعيدا عن كل تأويل ماكر أو قراءة مغرضة، فإن لغة الأرقام هي الكفيلة بدق ناقوس الخطر، وتسليط الضوء على الجوانب المظلمة في واقع البحث العلمي داخل هذه المؤسسة الجامعية.
تاريخيا يمكن تقسيم أهم المحطات التي شهدتها كلية الآداب سايس إلى ثلاث محطات أساسية:
أولا: محطة التأسيس و تمتد من تاريخ تأسيس المؤسسة سنة 1992 إلى غاية 2006
ثانيا: محطة البناء والاستمرارية وتمتد من 2006 إلى غاية 2018
ثالثا: محطة الانفتاح على المجهول وتمتد من 2018 إلى الآن.
وسنكتفي هنا برصد واقع البحث العلمي ومدى تطوره في هذه المؤسسة الجامعية من خلال مؤشرين أساسين هما: مؤشر الشراكة والتعاون الدولي، ومؤشر المشاريع العلمية المندمجة، مع اقتراح التدابير الممكنة لتجاوز الأزمة الراهنة.
1 ــ على مستوى الشراكة والتعاون الدولي:
عرفت مرحلة التأسيس دينامية خاصة، على مستوى الشراكة والتعاون الدولي بتحقيق أرقام محترمة بلغت حوالي 27 مشروعا موزعة على الشكل التالي: التعاون الجهوي 6 مشاريع، والتعاون الوطني 4 مشاريع، والتعاون الدولي 17 مشروعا، أما مرحلة البناء والاستمرارية فقد حققت أرقاما قياسية بحوالي 55 مشروعا موزعة على الشكل التالي : التعاون المحلي 11 مشروعا والتعاون الجهوي 20 مشروعا، والتعاون الوطني 6 مشاريع، والتعاون الدولي 18 مشروعا. أما المحطة الأخيرة، فلم تستطع الحفاظ على هذه الحركية في الإنتاج بتسجيل نتيجة سلبية في كل مجالات الشراكة والتعاون الدولي، وعملت بالقول المأثور ” كم حاجة قضيناها بتركها”.
وإذا كان عنصر الشراكة والتعاون يكتسي أهمية بالغة لتنمية العلاقة بين المؤسسة الجامعية ومحيطها الدولي والوطني والجهوي والمحلي، وذلك بهدف مد جسور التواصل وتبادل الخبرات والتجارب مع مختلف المؤسسات الشريكة، بغية تحقيق استفادة متبادلة وتمكين المؤسسة الجامعية من أداء وظيفتها ومهامها بكيفية أفضل ، فإن هذا الوضع غير الطبيعي يسائل الجميع، كل من موقعه، عن الأسباب الحقيقية لهذا التراجع الخطير في الإنتاج والمردودية رغم الهيكلة الجديدة للبحث العلمي وتخصيص ميزانية ضخمة لتطوير الشراكة و التعاون في مجال البحث العلمي.
2 ــ على مستوى المشاريع العلمية المندمجة :
تشكل المشاريع العلمية المندمجة محورا أساسيا في منظومة البحث العلمي ، باعتبارها قاطرة للتنمية الشاملة للبلاد، ومحركا حيويا لكل القطاعات الإنتاجية وعنصرا مميزا للمؤسسة الجامعية عن غيرها من المؤسسات. ويستفاد من رصد المشاريع العلمية المندمجة عبر المحطات الثلاث أن المحطة الأولى من تأسيس الكلية عرفت كعادتها حركية واسعة بتحقيق 25 مشروعا موزعة على الشكل التالي: 6 مشاريع مع المركز الوطني للبحث العلمي والتقني، و 11 مشروعا دوليا، خاصة مع الدول الأوروبية. غير أن هذه الحركية تقلصت مع المحطة الثانية التي سجلت13 مشروعا، مع تسجيل ملاحظة في غاية الأهمية أن جل المشاريع المندمجة تقتصر مجالاتها النشيطة على المجال الجغرافي ( السياحة، التهيئة المجالية، البيئة، تدبير المخاطر و الهجرة دون غيرها من المجالات الأخرى.). أما المحطة الأخيرة فيبدو أن موضوع المشاريع العلمية المندمجة خارج حسابتها العلمية والبحثية بحيث لم تتمكن من إخراج مشروع علمي مندمج واحد إلى حيز الوجود.
وعلاوة على المؤشرين السابقين، فإن واقع البحث العلمي في كلية الآداب سايس فاس يعاني من أزمة هيكلية تتمظهر من خلال مستويات متعددة ومنها على الخصوص:
تواضع النشر في المجلات العلمية المصنفة والمحكمة، مما أدى إلى تقليص ميزانية المختبرات إلى حوالي النصف ( حصلت مختبرات الكلية مجتمعة على 565 246 ألف درهم مقابل 1 057 802 درهم لكلية الآداب ظهر المهراز و 2 516 175 لكلية العلوم).
قلة المقالات المنشورة في المجلات العلمية المصنفة،( تعويضات الأساتذة الباحثين بالكلية في النشر RIB تقدر ب 56700 درهم مقابل 3 838 063 درهم في كلية العلوم)،
ضعف الحركية سواء بالنسبة للأساتذة الباحثين أو طلبة الدكتوراه مقارنة بالمؤسسات الجامعية الأخرى.
غياب مصاحبة بنيات البحث العلمي في كيفية إنشاء المشاريع البحثية التي تستجيب لحاجيات السوسيو اقتصادي.
إن هذه الخلاصات تستدعي التفكير في أنجع السبل الممكنة للنهوض بالبحث العلمي داخل المؤسسة ومضاعفة كل الجهود لجعله أكثر نجاعة وفعالة، ولهذا يتعين التفكير في تنزيل استراتيجية واضحة للبحث العلمي في أقرب الآجال تأخذ بعين الاعتبار مثبطات المرحلة، و تستلهم مجموعة من الدعامات الأساسية، عنوانها الأبرز التميز والحيوية وتشجيع الكفاءات وتحريك الذكاء الجماعي، ومصاحبة فعلية للكفاءات الجامعية، عبر مجموعة من التدابير والإجراءات العملية ومنها على الخصوص:
تشجيع البحث العلمي المتميز المبتكر والمتعدد من خلال دعم البنيات البحثية وتفعيل الشراكات مع مختلف الهيئات البحثية.
استثمار الطاقات العلمية في مختلف الحقول المعرفية وكذا الإمكانات البحثية التي تتوفر عليها المؤسسة في البحث الأساسي والتطبيقي.
تشجيع مختلف العروض البحثية الممولة وطنيا ودوليا.
مصاحبة الباحثين في كل مراحل البحث العلمي بدءا من الإعلان عن المشاريع البحثية الممولة وطنيا ودوليا، وصولا إلى مرحلة الإنجاز، وذلك بهدف جعل مواضيع الامتياز أكثر جاذبية للطلبة و الأساتذة الباحثين……..
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.