في لحظة صدقٍ مع النفس، وبعد أن أثقلتني الخيبات، قرّرتُ أن أغيّر نوعية الأصدقاء. لم يكن القرار سهلاً، لكنه كان ضرورياً. فقد تعبتُ من كثرة الأذى، ومن الغدر الذي يتخفّى في ثوب الودّ، ومن قلوبٍ لا تعرف المحبّة بقدر ما تُتقن الحقد والغلّ، ومع ذلك نُصرّ على تسميتها “أصدقاء”.
الصداقة ليست اسماً نمنحه لكل من اقترب، ولا ضحكةً عابرة، ولا ذكرياتٍ مشتركة فحسب؛ الصداقة موقف، وأمان، وصدق. هي أن تجد من يفرح لفرحك دون غيرة، ويحزن لحزنك دون شماتة، ويشدّ على يدك حين تضعف، لا أن يدفعك إلى الهاوية حين تتعثّر.
كم من صديقٍ كان أقسى من عدو، يراك تتألم فيبتسم، ويراك تنجح فيغتاظ، يبارك لك بلسانه ويطعنك بقلبه. وكم من كلماتٍ معسولة كانت تخفي وراءها نوايا سوداء، وحقداً صامتاً، وانتظاراً لأول سقطة. أولئك لا يستحقون اسم الصداقة، مهما طال العِشرة أو كثرت الذكريات.
ومع كل ذلك، لستُ قاسيةً ولا فارغة. أنا إنسانة تعلّمت بالطريقة الأصعب. تعلّمتُ أن بعض القلوب لا تُصلَح، وأن بعض العلاقات لا تُنقَذ، وأن الوجع أحياناً ليس لعنة، بل درس. تعلّمتُ أن القلب الحيّ هو من يتألم، لا من يتبلّد.
وفي أشدّ المواقف قسوة، حين تتكالب الجموع، ويعلو الظلم، ويظنّ البعض أن السقوط بات قريباً، يتجلّى معنى التوكّل. فالله لا يترك من فوّض أمره إليه. قد يكثر الخصوم، لكن يكفي أن يُسخّر الله قلوباً قليلة، يكون حضورها ثقيلاً، وكلمتها فاصلة، وتدخّلها بمثابة ردّ اعتبار يعيد التوازن، ويُسقط الباطل دون ضجيج. عندها يدرك الإنسان أن العدل قد يتأخر، لكنه لا يضيع.
لهذا قلتُها بوضوح: كلبٌ صديق، خيرٌ من صديقٍ كلب. فالوفاء لا يحتاج إلى شعارات، بل إلى طبيعة صادقة لا تعرف الخيانة ولا التلوّن حسب المصلحة. أمّا من جعل الصداقة ساحةً للمقارنة، ووسيلةً للاستغلال، وغطاءً للأذى، فلا يستحق هذا الاسم مهما طال القرب.
تغيير نوعية الأصدقاء ليس قسوة، بل رحمة بالنفس. هو احترام للوقت، وللقلب الذي تعب من الترميم. ليس كل ابتعادٍ خسارة؛ فبعض البُعد نجاة، وبعض العُزلة سلام. أن تكوني وحيدة بكرامة، خيرٌ من أن تكوني محاطة بأشخاصٍ ينهشون روحك باسم القرب.
وفي النهاية، أوقنُ أن ما كان ليُصيبني لم يكن ليُخطئني، وما أخطأني لم يكن ليُصيبني. علّمتني التجربة أنّ الله إذا تولّى أمرك، فلا تخشي كثرة الخصوم ولا شدّة الكيد؛ فقلوب الناس بيده، والميزان بيده، والنصرة منه وحده. قد يُحاصرك الظلم زمناً، لكنّ الله يُظهر الحق في الوقت الذي يشاء، وبالطريقة التي تحفظ كرامتك.
أنا امرأة لم تختر المعارك، لكنها اختارت الثبات. لم تنتصر بالقسوة، بل باليقين، ولم تُنقَذ بالضجيج، بل بتوكّلٍ صادق. فالحمد لله حين ضاقت السبل فاتّسع الأمل به، والحمد لله حين خذلني البشر فكان هو السند، والحمد لله على كل ابتلاءٍ كشف لي من يستحق القرب… ومن لا يستحق حتى الذكر.
بقلمي
رجاء التوبي
عاشقة للوطن
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


