بقلم : آدم بوبل
يُشكّل يوم التاسع والعشرين من أكتوبر، في كل سنة، مصدرًا للحزن والكآبة والمرارة والغضب بالنسبة لليسار المغربي.
ففي هذا التاريخ، اختُطف واختفى المهدي بن بركة سنة 1965 في باريس، كما اختُطف الحسين المانوزي سنة 1972 في تونس.
لم تُكشف الحقيقة في القضيتين إلى اليوم، وما زالت الأنظمة المغربية والفرنسية (في قضية بن بركة) والتونسية (في قضية المانوزي) ترفض نشر الوثائق أو رفع السرية عن الملفات المرتبطة بهاتين القضيتين السياسيتين.
وفي هذا اليوم، 29 أكتوبر 2021، بعد مرور ستة وخمسين عامًا على اختطاف المهدي بن بركة وإجهاض مشاريعه التحررية الكبرى، سواء على الصعيد الوطني أو على مستوى العالم الثالث، وتسعةٍ وأربعين عامًا على اختطاف الحسين المانوزي، أحد النشطاء البارزين في الحركة النقابية المغربية والعربية في بلجيكا وهولندا وليبيا، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن نتمسك بالحقيقة، تلك القضية النادرة التي ما زالت توحّد صفوف اليسار المغربي.
من أجل بن بركة، ومن أجل المانوزي، ومن أجل عائلتيهما أولًا، ثم من أجل الشعب التقدّمي بأسره.
لم تتوقف العائلات عن المطالبة بالعدالة، ولكن دون جدوى. فـ«منطق الدولة» ظلّ دائمًا هو الغالب.
وفي هذه الذكرى، أودّ أن أتناول فكر المهدي بن بركة. فكلّما تعمّقنا في قراءة هذا الرجل، أدركنا أكثر حجم التهديد الذي مثّله بالنسبة للحكم الفردي والإقطاعي، الذين كانوا الداعمين الأوائل للنظام وللاستعمار الجديد.
قررتُ أن لا أتحدث عن تفاصيل اختطافه لسببين:
أولًا، لأنني مجرّد متفرّج على هذه القضية ولستُ طرفًا فيها، والوحيدون الذين يملكون الحقّ والمعرفة الكاملة للحديث عنها هم عائلة بن بركة ومحاميها الأستاذ موريس بوتان وآخرون.
ثانيًا، لأنّ قضية بن بركة قد تناولها الأستاذ موريس بوتان في كتابه المفصّل «الحسن الثاني – ديغول – بن بركة: ما أعرفه عنهم» الصادر عام 2010 والمعاد طبعه سنة 2015، إضافة إلى عدة مقالات وحوارات، آخرها بعنوان «احتقار السلطة» المنشور في موقع ميديا بارت بتاريخ 28 يونيو 2020.
إنّ هذا النصّ الذي أقدّمه سيكون مقسّمًا إلى خمس فقرات، كلّ فقرة تتناول فكرة من الأفكار الأساسية لزعيم المعارضة المغربية.
ويجب أن نعلم أنه لا شيء يُغني عن قراءة المهدي بن بركة نفسه لفهم فكره، إذ إنّ عملي هذا ليس سوى جهدٍ تبسيطيٍّ وتنويريّ يهدف إلى نشر أفكاره التقدّمية، المساواتية، الاشتراكية، والأممية.
وللتعمق أكثر في فكره، يمكن الرجوع إلى كتاب «المهدي بن بركة: مجموعة نصوص» الذي قدّمه بشير بن بركة عام 2013.
وإذا كان جسد المهدي بن بركة قد اختفى، فإنّ فكره لا يجب أن يختفي.
وإذا كانت هناك تصفية جسدية، فلا ينبغي أن تكون هناك تصفية فكرية.
إنّ إحياء فكره واجب من واجبات الذاكرة الوطنية.
1. بناء المغرب الجديد
إنّ بناء مغرب جديد، أو ما سمّاه المهدي بن بركة بـ«المجتمع الجديد»، يشكّل – في نظري – العمود الفقري لمشروعه الفكري والسياسي.
فبعد الاستقلال سنة 1956، وجد المغرب نفسه أمام واقعٍ معقّد يتمثّل في عبء إرثين:
– «الأول يمكن أن نسمّيه الإرث الاستعماري، والثاني – وهو غالبًا متأثر بالأول وأهمّ منه – إرث الجمود والعزلة، الأمر الذي جعل المغرب متأخرًا بما يقارب ثلاثة قرون في مجالات الاقتصاد والتقنية والمؤسسات.»
ولذلك لم يكن من الممكن أن نبقى أوفياء لعاداتنا السيئة المتمثلة في الجمود والاعتداد الفارغ بالنفس.
لكن، لماذا مغرب جديد؟ ولماذا مجتمع جديد؟
– «لكي نُمكّن الإنسان من أن يتفتّح ويتمتع بالمكاسب العلمية والتقنية التي ساهم أجدادنا أنفسهم في تطويرها، وأن نقضي على كلّ أشكال الاستغلال.»
فالمطلوب ليس إنهاء الاستغلال الناتج عن فترة الحماية فحسب، بل أيضًا الاستغلال الداخلي، أي استغلال الإنسان المغربي لأخيه الإنسان المغربي.
ويرى بن بركة أن هذا التأخر يعود أيضًا إلى حرص المغاربة التاريخي على الحفاظ على استقلالهم، إذ يقول:
«إنّ الأسوار التي شيّدناها ضد الغزو منذ العهد السعدي كانت في الوقت نفسه أسوارًا منعت العلم من الدخول إلينا.»
فكيف يمكن إذًا بناء هذا المجتمع الجديد؟
لقد وضع بن بركة معالم هذا المشروع منذ يونيو 1958 في تطوان، أمام أطر حزب الاستقلال، حيث قدّم رؤيته العملية للإصلاح والبناء.
.
٢ – الدستور والديمقراطية
إنّ الدستور يسير جنبًا إلى جنب مع الديمقراطية، فالأول يضمن الثانية، والثانية تفترض وجود الأول.
لكن عن أي ديمقراطية نتحدث؟ وعن أي دستور؟
يرى المهدي بن بركة أنّ
> «الديمقراطية ليست لافتة نعلّقها للزينة أمام السياح، بل هي واقع يجب أن يتيح لكل فرد فرص التقدّم الفعلية.»
أما الدستور، فلا يمكن اعتباره دستورًا حقيقيًا إلا إذا
> «ضمن الحريات العامة وجعلها قابلة للتطبيق من خلال مراقبة السلطة ومحاسبتها، ومنع التأثيرات الأجنبية من التدخّل في شؤون وطننا.»
ولكي يتحقق مسار دمقرطة البلاد، لا بدّ من إصلاحات عميقة — اقتصادية ومؤسساتية واجتماعية وثقافية — وليس مجرد تعديل للدستور يتم بعيدًا عن ممثلي الجماهير الشعبية الحقيقيين.
إنّ الديمقراطية، في نظر بن بركة، هي أيضًا البحث عن الجهات الحقيقية التي تملك السلطة العامة، بهدف تحديد المسؤوليات السياسية لكل فاعل.
> «إنّ ما يهمّ في الدستور، هو تحديد السلطات والمسؤوليات أمام الشعب، وإقامة مؤسسات حقيقية تعبّر عنه.»
ولا يمكن أن تضمن ذلك إلا جمعية تأسيسية منتخبة.
لقد عاش المهدي بن بركة تجربة دستورية واحدة عن قرب، هي دستور 7 ديسمبر 1962.
فبعد صدور الظهير المؤرخ في 4 نوفمبر 1962 المتعلق بتنظيم الاستفتاء، أصدر الأمانة العامة لـ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (UNFP) في 7 نوفمبر 1962 بيانًا ناريًا، احتجاجًا على تحديد فترة التسجيل في اللوائح الانتخابية في أسبوع واحد فقط، دون إعلان رسمي لتاريخ الاستفتاء أو نشر نص الدستور المقترح.
وفي اجتماع اللجنة المركزية بتاريخ 15 نوفمبر 1962، قرّر الحزب مقاطعة الاستفتاء، أي قبل نشره بثلاثة أيام.
وقد عكست هذه الخطوة تمسّك قادة الحزب — وفي مقدمتهم المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري — بضرورة احترام شكل ومنهج صياغة الدستور.
لكن الأمر لم يكن شكليًا فحسب؛ إذ إنّ مضمون الدستور نفسه كان قد كُتب من قبل ممثلين عن المصالح الاستعمارية في المغرب، وكان يكرّس السلطة الفردية وامتيازات الإقطاع.
وقد استندت أطروحة المعارضين على ضرورة انتخاب جمعية تأسيسية، وهو المطلب الذي تبنّاه كلّ من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وذراعه النقابي الاتحاد المغربي للشغل (UMT).
يقول بول شمبرجات في هذا السياق:
> «يبدو أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الاتجاهات المختلفة في حال قرر الملك عرض مشروع دستور أعدّه بنفسه مباشرة على الاستفتاء، كما وعد بذلك سابقًا.»
ويضيف شمبرجات:
> «كان بعض السياسيين مستعدّين للتخلّي، في الوقت المناسب، عن مطلب الجمعية التأسيسية المنتخبة إذا دُعي الحزب إلى المشاركة في الحكومة وحصل على ضمانات محددة بخصوص مضمون الدستور. ويمكن إدراج بن بركة ضمن هذه الفئة.
أمّا الاتجاه الآخر، فكان يدعو إلى معارضة منهجية. وكان من بين أعضائه بعض عناصر المقاومة، وعلى رأسهم الفقيه البصري، إضافة إلى وزير المالية الأسبق في حكومة إبراهيم، عبد الرحيم بوعبيد، الذين كانوا يؤيّدون هذا الموقف المعارض.»
وقد انتهت قيادة بن بركة لهذه المرحلة الحاسمة يوم 16 نوفمبر 1962، إثر محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في الطريق الرابطة بين الرباط والدار البيضاء.
3 – ما هي الثورة؟
لطالما تجنّبنا إعادة الحديث عن الخيار الثوري، الوثيقة التي قدّمها ب خلال المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1962، والتي رفضتها القيادة آنذاك. وقد قام بنشرها بنفسه في يونيو 1965 بعد “الأحداث الدموية لشهر مارس (23 مارس 1965 بالدار البيضاء)” وما تلاها من “تطورات سياسية”.
وعندما أستعمل عبارة الخيار الثوري هنا، فإنني لا أقصد، لا الآن ولا لاحقًا في هذا النص، حركة “الخيار الثوري” التي ظهرت قبيل المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975، والتي حدّدت توجهات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كحزب إصلاحي متمسّك بالاختيار الديمقراطي. ما يهمّني هو توضيح بعض المناطق المعتمة التي ظلت منذ زمن بعيد من المحظورات.
ماذا يقصد المهدي بن بركة بكلمة “ثورة”؟
أولًا، وضع بن بركة قوتين متعارضتين:
– القوى الثورية: صغار الفلاحين المعدمين، الطبقة العاملة، والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة.
– القوى الرجعية: القصر، الإقطاع، البرجوازية الكبيرة، والإدارة العليا والمتوسطة.
لكلّ قوة بطبيعة الحال مستوى مختلف من الإمكانات الثورية أو الرجعية، ويتحدد هذا المستوى حسب خصائص كل طبقة.
ولكي تكون طبقة ما أكثر ثورية، يجب أن تتوفر فيها شرطـان متلازمان:
1. تنظيم جماهيري وديمقراطي،
2. وتوضيح أيديولوجي.
بمعنى آخر، يجب توفر وعي سياسي ونقابي قوي، خصوصًا وأن الرجعية كانت تستعمل كل الوسائل المتاحة لفصل القيادات النقابية عن القيادات السياسية.
أما لكي تكون الطبقة أكثر رجعية، فيجب أن تتوفر على امتيازات. فالبروليتاريا الرثّة (أو “لُمْبان بروليتاريا”، ويقصد بها بن بركة الفلاحين الذين طُردوا من أراضيهم واضطروا للهجرة نحو المدن بسبب البطالة ونقص فرص العمل) يمكن التحكم فيها بسهولة من طرف القوى الرجعية بمجرد تلبية حاجاتها الأساسية (السكن، الغذاء، الصحة…) أو تقديم وعود غامضة لها، أو عبر التخويف والتهديد من قبل أعوان السلطة.
مثال واضح على ذلك ما حصل خلال الاستفتاء الدستوري في 7 ديسمبر 1962، حيث كان أغلب المصوّتين بـ”نعم” في المدن هم سكان الأحياء الهامشية الذين أتوا أصلًا من البوادي.
وبحسب جاك بيرك، كما ينقل عنه بول شامبرجات، فإن هؤلاء الأشخاص “لم يفقدوا بعدُ ردود الفعل الاجتماعية والسياسية للسكّان القرويين، وخاصة شعور الخوف والاحترام تجاه السلطة وممثليها”. ويزداد هذا الشعور بسبب وضعية التبعية التي يعيشونها، حيث يحصلون على جزء مهم من مواردهم عبر الإعانات والصدقات العامة. ولتفادي أن يصبحوا سندًا للنظام، يجب أن يعودوا إلى بيئتهم الطبيعية: الريف.
ولتحقيق ذلك، يجب توفير شروط حياة كريمة ومنتجة في هذه المناطق، خاصة عبر تطبيق الإصلاح الزراعي، وهو ما سيتم تفصيله لاحقًا. إضافة إلى البروليتاريا الرثّة، تضمّ القوى الرجعية الإقطاع، والبرجوازية الكبرى، والإدارة العليا والمتوسطة. لكن المشكلة، كما يرى بن بركة، أن “الامتيازات محدودة بطبيعتها، بينما جشع بعض الناس لا حدود له”.
وبخصوص كلمة “الثورة”، فإن بن بركة لا يقدّم تعريفًا دقيقًا لها، لكنه يعالج مفهومًا أكثر أهمية: منظور ثوري.
لماذا يتحدث عن “منظور ثوري” وليس عن “ثورة” ببساطة؟
لأن المنظور منهج وطريقة تسمح بفهم الفكرة من كل جوانبها، في الحاضر والمستقبل.
فمن الواضح عند بن بركة أن الثورة ليست حدثًا يقع بين عشية وضحاها، بل هي بناء طويل المدى.
ويكتب:
«إن المنظور الثوري يسمح لنا بتوفير إطار شامل، في الزمان والمكان، ندرج داخله الإجراءات المناسبة لظرف معيّن، ونتخذ منه أهدافًا مرحلية على طول مسيرتنا نحو أهدافنا الأساسية».
ولهذا، تعتبر مفاهيم “المنظور الثوري” و“الطموح الاشتراكي” و“البرنامج” مترادفة لديه.
والمشكلة الأساسية مرة أخرى هي مشكلة التوضيح الأيديولوجي. فالطموح الاشتراكي لا يعني “الرغبة في الاشتراكية بشكل مجرد”، بل يعني البدء فعليًا في بناء أسس هذا النظام الاقتصادي والاجتماعي.
وبالنسبة للبرنامج، فهو “تحليل شامل وديناميكي”، وليس مجرد مجموعة قرارات قد يتخذها الحزب عندما يصل إلى السلطة، بل هو خط توجيهي يفسّر نضالات الماضي ويرسم ملامح المستقبل. ولهذا ينتقد بن بركة إطلاق الشعارات العامة مثل “نظام ضريبي عادل” أو “تقليص الفوارق الاجتماعية” أو “تشجيع صغار المنتجين”.
وقد قال ماركس:
“خطوة واحدة إلى الأمام في الحركة الثورية خير من عشرات البرامج.”
ولا يشير بن بركة إلى أي ثورة مسلحة. بل يستعمل كلمة “ثورة” بدل “إصلاح”، لأن الإصلاحات كانت مستحيلة في سياق تلك المرحلة.
1. متى يجب أن تقوم الثورة؟
في إطار المنظور الثوري، يجب الجمع بين الزمن الطويل والزمن القصير. ويجب أن تهدف جميع نقاط البرنامج إلى تحقيق الطموح الاشتراكي.
ويكتب بن بركة:
«لا وجود لبرنامجنا٠ولا يتحدد إلا عبر البرامج الآنية التي تمنحه مضمونًا حقيقيًا، كما أن كل نقطة من البرنامج الآني لا تكتسب معناها الشامل إلا من خلال هذا الارتباط، وإلا أصبحت غاية في حد ذاتها».
ويجب أن يظهر المنظور الثوري عندما تُكشف قوى الرجعية، وعندما يظهر بوضوح أن الدولة تخدم الإقطاع والبرجوازية الكومبرادورية المرتبطة بالمصالح الأجنبية.
هذه العملية قد تستغرق وقتًا طويلًا، وقد تتسارع بحدث مفاجئ، لكن
«لا أحد يستطيع التنبؤ بدقة بتتابع فترات المدّ والجزر في الثورة».
2. كيف يجب أن تتحقق الثورة؟
لصياغة برنامج طويل المدى، يجب توفر ثلاثة شروط:
أ) البرنامج يجب أن يكون “ضرورة مطلقة لتطور الأمة كلها”
وليس محاولة للتوفيق بين مصالح الطبقات المختلفة، بل رؤية شاملة لمتطلبات التنمية الاقتصادية.
ب) يجب تحديد الهدف بوضوح
لا يكفي تبنّي شعارات، بل يجب تحديد النتيجة المراد تحقيقها.
وقد اختار بن بركة الاشتراكية العلمية، التي تعني:
– مؤسسات سياسية تمكّن الجماهير من الرقابة الديمقراطية على الدولة وتوزيع الثروة،
– اقتصادًا يقطع جذور الهيمنة الإمبريالية المتحالفة مع الإقطاع والبرجوازية الطفيلية،
– وتنظيمًا سياسيًا واجتماعيًا يربّي الجماهير ويعبّئها لتوفير الموارد الضرورية.
ج) وجود وسائل واضحة لتحقيق الأهداف
الاشتراكية ليست الوسيلة، بل الهدف. أما الوسيلة فهي الأدوات، ومنها التخطيط الاقتصادي، الذي يعتبره بن بركة الوسيلة العقلانية لتحديد أولويات الاستثمار والقطاعات التي يجب تأميمها (الفلاحة، الصناعة، التجارة، البنوك).
٤- الإصلاح الزراعي :
في حوارٍ أجراه ريمون جان مع المهدي بن بركة في يونيو 1959، وصف هذا الأخير عملية “الحرث الجماعي” بأنها عملية ثورية. فما طبيعة هذا المشروع؟ كانت هذه العملية «عنصرًا مهمًا في برنامج تغيير بُنى الريف المغربي»، إذ قدمت للزراعة التقليدية ميزة مزدوجة: الجرار وروح التعاون.
الجرار يقدّم للفلاح مساعدة ميكانيكية تزيد الإنتاج دون أن تعوّضه. فهو ليس «ترفًا يزيد من البطالة المقنّعة»، خصوصًا وأن ثلاثة أرباع سكان المغرب كانوا يعيشون في البوادي بعد الاستقلال. كما أن الجرار «ضرورة مناخية».
ذلك أن «الريف المغربي يبقى رهينة أمطار الخريف التي، إن تأخرت، لا تتيح للفلاح حرث كل أرضه بسبب ضيق الوقت».
غير أن مشكلة ظهرت: ضرورة التعاون بين صغار الملاك المستفيدين من العملية. فالجرار لا يكون مربحًا إلا في المساحات الواسعة، بينما معظم المستفيدين كانوا يملكون «أقل من 50 هكتارًا».
ولتحقيق التعاون، كان على الفلاحين إزالة الحدود بين قطع أراضيهم مؤقتًا للسماح للجرار بحرث مساحة كبيرة، وهو أمر صعب: «من يعرف الفلاح يدرك أن قطع رقبته أسهل من طلب إزالة حدود أرضه».
لكن بفضل الشرح والتدخل الشخصي للملك محمد الخامس، اقتنعت القرى جماعيًا بضرورة إزالة هذه الحدود مؤقتًا أثناء مرور الجرار.
وهنا يكمن الطابع الثوري: إذ اضطر القرويون إلى تشكيل لجنة لمراقبة الحدود، تحولت تدريجيًا إلى لجنة تعاونية تهتم بالعمل الجماعي، وشراء البذور والأسمدة، بدل الاكتفاء بالترسيم فقط. وبهذا، ينشأ التعاون من الممارسة وليس بفرض من فوق.
وقد أثمرت العملية، إذ ارتفع الإنتاج بنسبة 60٪ في الأراضي المستفيدة، وتحسن مستوى عيش حوالي 35 ألف فلاح.
تمثل هذه التجربة مقدمة للإصلاح الزراعي، الذي يعتبر ضروريًا لبناء المجتمع المغربي الجديد. ذلك لأن أغلب السكان يعيشون في الريف، ولأن التصنيع لا يمكن أن يتحقق إلا بتحسين أوضاع الفلاح ورفع قوته الشرائية.
ويتلخص الإصلاح الزراعي في «منح الفلاح الوسائل لكسر قيود البؤس وتغيير نمط حياته»، ويتم ذلك بتوزيع وسائل الإنتاج: الأرض والآلات، وفق شعار «الأرض لمن يفلحها».
وقد حدّد بن بركة مصادر الأرض التي يجب توزيعها: الأملاك المصادرة من الخونة والإقطاعيين، الأراضي المكتسبة عبر التوسعات المائية، ثم الأراضي المنهوبة أو المنتزعة خلال المرحلة الاستعمارية.
ولم تكتفِ الـUNFP بالشعارات، بل قدمت مشروع قانون مفصل نوقش في 14 شتنبر 1964.
أبرز بنوده:
المادة 3: «الأرض الزراعية المغربية لا يملكها إلا المغاربة».
المادة 6: ملكية الحد الأقصى:
40 هكتارًا في الأراضي المسقية،
200 هكتار في غير المسقية.
تُحوّل ملكية ما يتجاوز ذلك إلى الدولة مع تعويض (عدا الزيادة في القيمة).
تُحدَّد التعويضات عبر لجان إقليمية. ولا يلغي هذا الإصلاح الملكية الخاصة، إذ إن الدولة تعيد توزيع الأراضي مجانًا وفي أجل سنة على الفلاحين، باقتراح من جمعيات الدواوير.
شروط الاستفادة:
أن يكون المستفيد مغربيًا، راشدًا، مزارعًا، ولا يملك أكثر من هكتارين مسقيين (أو ما يعادلها).
الأولوية تُمنح لمن:
1. يفلح الأرض فعليًا،
2. ثم العامل الزراعي،
3. ثم الأقل فقراً،
4. ثم الغريب عن الدوار.
ولا تتجاوز الحصة أربعة هكتارات.
كما تُرفق الأرض بدفاتر تحملات تلزم الفلاح بزراعتها بنفسه واستغلالها. وتشمل عملية التحويل أيضًا أراضي الأحباس والغيش والأراضي الدولة الزراعية.
5- طريق الوحدة:
«يجب علينا أن نعبّئ، بالمعنى الحقيقي للكلمة، الإمكانات الهائلة الموجودة في المراكز القروية، والدوّار، والقصور الأكثر تهميشًا، والتي يمكنها، بدفعة بسيطة ومدروسة، أن تُشغِّل شعبًا كاملًا، مستعدًا للحماس من أجل عمل نبيل…».
وانطلاقًا من هذه الرؤية وضع المهدي بن بركة مشروع طريق الوحدة، وهو طريق بُني بجهود حوالي 11.000 شاب مغربي، ليربط بين تاونات وكتامة.
«طريق الوحدة ليست مجرد طريق: فمن خلال هذا المسار الجديد، الذي رسمته أيدي الشباب، سيمر أولئك الذين لا ambition لديهم إلا أن يكونوا البنّائين الحقيقيين للاستقلال.»
هذا الطريق لم يربط مجرد نقطتين، بل ربط أرضين فُصلتا لنصف قرن: المغرب الخاضع للاستعمار الفرنسي والمغرب الخاضع للنفوذ الإسباني. ومن خلال هذا المشروع قدّم بن بركة تصورًا جديدًا للمواطن المغربي: فقد أصبح مواطنًا-مناضلًا، يعمل في الصف الأول وبقوة يديه لبناء المغرب الحديث. لكن تجربة طريق الوحدة لم يكن لها أن تتوقف عند هذا الحد، إذ كان الهدف أن يُعيد «البنّاؤون» نشر جهودهم على المستوى المحلي.
وهذا ما تحقق بالفعل، خاصة في مراكش وأكادير. ولشرح هذه التجارب، يشير بن بركة إلى مقال في صحيفة لوموند حيث عبّر غابرييل أردان، المفوّض العام للإنتاج في فرنسا خلال الخمسينيات والستينيات، عن رأيه في هذا المشروع العملاق.
يعتبر غابرييل أردان هذه التجربة «طريقة اقتصادية وإدارية واجتماعية جديدة، تسمح بالوصول إلى الإنسان العاطل في كل مكان وتحويله إلى عامل». وفي تجربة مراكش عرض الوضعية الأولية، والعملية المنجزة، والتكلفة، والنتائج المحققة في أحد مشاريع المنطقة، وخاصة مشروع «الزمرة – سيدي رحال»:
الوضعية: ستة آلاف هكتار مغطاة بالحجارة، أو بالأحرى بقشرة من الحصى… وتحتها أرض صالحة للسقي.
العملية: تحفيز ألفي أسرة من القبيلة — أي ثمانية آلاف شخص — على تنظيف الأرض من جميع الحجارة…
التكلفة: تلقّت كل أسرة، التي تمثل في المتوسط عاملين اثنين، مبلغ 7.500 فرنك مقابل شهرين من العمل، نصفه نقدًا ونصفه قمحًا، أي ما مجموعه 15 مليونًا.
النتيجة: يمكن توقع 10 قناطير إضافية في كل هكتار، أي 60.000 قنطار من القمح أو الشعير، بقيمة 2.500 فرنك للقنطار، ما يعادل 150 مليون فرنك إضافية لهذه الجماعة الفقيرة.
أما الزيادة في «الترتيب»، أي الضريبة العقارية المغربية المرتبطة بالمحصول، فتمثل وحدها — بنسبة 5% — حوالي 7.500 فرنك كل سنة، مما يعني أن الدولة يمكنها أن تسترجع نفقاتها خلال سنتين.
انتهى المقال
تقديم وتصحيح : عبدالحق الريكي
آدم بوبل: شاب مغربي يجمع بين التميّز الأكاديمي والالتزام المجتمعي
في الثالثة والعشرين من عمره فقط، يبرز آدم بوبل كأحد الوجوه الواعدة لجيل جديد من الشباب المغربي الواعي، الذي يجمع بين المعرفة، والوعي السياسي، والانفتاح على العالم.
وُلد في المغرب وبدأ مسيرته الجامعية في كلية الحقوق أكدال بالرباط، حيث اختار التخصص في القانون باللغة الفرنسية.
عرفته في تلك المرحلة: أنا، رجل متقاعد شغوف بالعلم، وهو شاب حديث التخرج من الثانوية بشعبة العلوم، يجلس لأول مرة على مقاعد الجامعة.
ورغم رغبة والدته في أن يتجه نحو دراسة الطب أو التحاقه بإحدى المدارس الخاصة المرموقة، فقد اختار آدم بوعيٍ وإصرار الجامعة العمومية، مؤمناً بأن الكفاءة والاجتهاد خيرٌ من الامتيازات والمظاهر.
وكان خياره صائباً: فقد نال جائزة التميّز وتصدّر الرتبة الأولى في شعبتين، العربية والفرنسية.
هذا التفوق مكّنه من الحصول على منحة دراسية فرنسية لمتابعة دراسات الماستر في جامعة مرموقة بباريس، ثم من منحة أوروبية أخرى أتاحت له الالتحاق بـمدرسة عليا بمدينة بروج البلجيكية المرتبطة بـالمجتمع الأوروبي.
واليوم، يواصل دراسته في سلك الدكتوراه في إحدى الجامعات الفرنسية المرموقة، بفضل منحة فرنسية جديدة.
لكن مسيرة آدم لا تتوقف عند النجاح الأكاديمي، إذ يُعد أيضاً فاعلاً فكرياً ومجتمعياً بارزاً.
يكتب بانتظام مقالات فكرية وسياسية، من بينها دراسات وتحليلات حول شخصية المهدي بن بركة، أحد أبرز رموز اليسار المغربي، مقدّماً رؤى نقدية عميقة تفوق سنّه.
كما يساهم بفعالية في مدوّنة “ميديابارت” الفرنسية، حيث ينشر مقالات وتحليلات فكرية حول القضايا الديمقراطية الراهنة.
وعلى الصعيد النضالي، يُعتبر آدم من قيادات حركة “جيل Z 212” في باريس، وهي منصة شبابية مغربية تدافع عن قيم التقدّم والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير.
إلى جانب ذلك، يلعب دوراً أساسياً داخل شبيبة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في باريس، حيث يُعد من الأصوات الصاعدة لليسار المغربي في المهجر.
إن آدم بوبل، الطالب المجتهد والمفكر والمناضل، يجسّد جيلاً من الشباب المغربي الذي يرفض الاستسلام للواقع، ويسعى لبناء مستقبل أكثر عدلاً وكرامة.
فبين باريس والرباط وبروج، يواصل مسيرته بثبات، مؤمناً بأن العلم لا قيمة له إلا إذا أنار طريق الفعل.
ويُذكر أن جدَّه من جهة الأب كان من رفاق المهدي بن بركة، في حين أن والدته تمتهن المحاماة بهيئة الرباط، وكانت في السابق نائبة برلمانية وعضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
ومن الجدير بالذكر أن هذا المقال كتبه آدم بوبل سنة 2021، أي خلال سنته الأخيرة في الإجازة، ويُنشر اليوم مترجماً للمرة الأولى، لما يحمله من رؤية ناضجة وأفكار مفيدة.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


