اتفاق شرم الشيخ: نهاية حرب أم بداية ثورةٍ إبراهيمية جديدة

abdelaaziz63 ساعات agoLast Update :
اتفاق شرم الشيخ: نهاية حرب أم بداية ثورةٍ إبراهيمية جديدة

بقلم: محمد اكن 

 

تخرج الشعوب أحياناً من رماد الحروب وهي لا تدري إن كانت قد انتصرت أم خسرت، لأن الهزيمة لا تُقاس بانكسار الجيوش، بل بانكسار الروح، ولأن النصر الحقيقي لا يُقاس بعدد البنادق التي صمتت، بل بمدى بقاء الفكرة حيّة في الوجدان الإنساني.

من هنا، يطلّ اتفاق شرم الشيخ لا كوثيقة سياسية جامدة، بل كحدثٍ مفعمٍ بالرمزية، يعلّق التاريخ على حافته سؤالاً مصيرياً: هل هو نهاية حربٍ أنهكت الأرض والبشر؟ أم بداية ثورةٍ إبراهيمية جديدة تسعى إلى إنقاذ الإنسان من حروبه الطائفية ومن ضلال القوة التي أنهكت ضميره؟

في القراءة الواقعية، يبدو الاتفاق كذروةٍ لتعبٍ سياسي وعسكري، لحظةٍ وجد فيها المتقاتلون أنفسهم مجبرين على تجرّع مرارة التنازلات وقبول ما كان يوماً مرفوضاً. سلامٌ فرضه الإنهاك أكثر مما ألهمته القناعة. ومع ذلك، فإن وراء السطور الباردة لهذا الاتفاق دفقة روحية خفية، كأن التاريخ يذكّرنا بأن كل هدنة ليست نهايةً للقتال، بل دعوةٌ إلى مراجعة الذات، وإعادة النظر في معنى الإنسان قبل الدولة، والروح قبل السلاح.

ما انتهى في شرم الشيخ ليس الحرب، بل شكلها القديم؛ الحرب التي كانت تُخاض بالسيوف والبنادق، وتبدأ الآن في ميدانٍ آخر: ميدان الوعي. فمن رحم العنف تنبعث الحاجة إلى معنى، ومن بين الركام يطلّ سؤال الخلاص. هل يمكن للعقل الإنساني أن يتحرر من ثنائية المنتصر والمهزوم ليعود إلى جوهره الأول، إلى الإنسان الذي أراده الخالق خليفةً في الأرض، لا قاتلاً فيها؟

إن الثورة الإبراهيمية الجديدة التي تلوح في أفق هذا الاتفاق ليست سياسيةً بالمعنى التقليدي، بل روحيةٌ وإنسانيةٌ في جوهرها. إنها استدعاءٌ للمرجعية العليا التي جمعت الأديان الثلاث: التوحيد، والعدل، والرحمة. فإبراهيم، عليه السلام، لم يكن نبيّاً لطائفةٍ أو حزب، بل رمزاً لوحدة المصير الإنساني، ولقدرة الإيمان على تجاوز الحدود واللغات. واليوم، ونحن على أعتاب مرحلةٍ جديدة من التاريخ، يبدو أن العالم بحاجةٍ إلى إبراهيم آخر — لا ليؤسس ديناً، بل ليذكّرنا بالإنسان الذي كدنا ننساه.

فما نراه في شرم الشيخ ليس فقط نهاية حرب، بل بداية نداءٍ أخلاقيٍ كبير، يدعونا جميعاً — يهوداً ومسيحيين ومسلمين — إلى العودة إلى أصل الرسالات: إلى “الكلمة السواء”، إلى الإيمان الذي يحرّر ولا يُقصي، إلى سلامٍ لا يُفرض بالسلاح، بل يُبنى على معرفةٍ متبادلة وإرادةٍ صادقة.

وفي البعد الوجداني، يبقى الإنسان هذا الكائن المتعب من الحروب التي تشبهه وتكرّره يبحث في الاتفاق عن معنى النجاة. يريد أن يصدّق أن السلام ممكن، وأن ما جرى في شرم الشيخ ليس استراحةً من الدم، بل بداية طريقٍ أطهر وأعمق. طريقٌ نحو سلامٍ إيمانيٍّ جديد، يرى في الاختلاف فرصةً للتكامل، لا ذريعةً للقتل.

يبقى اتفاق شرم الشيخ، بكل رمزيته، مرآةً لضمير الإنسانية: هل سنقرأه كبداية لعصرٍ إبراهيمـيٍ يعيد للإنسان روحه ويطهّر الإيمان من التطرّف؟ أم سنكتفي بأن نعلّقه على جدار التاريخ كوثيقة أخرى من وثائق النسيان؟

الجواب، كما في كل مرة، ليس في نصوص الاتفاق ولا في مؤتمرات القادة، بل في قلوب الناس وفي قدرتهم على الإصغاء إلى النداء الإبراهيمي القديم:

“ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.”

فإذا لبّت الإنسانية هذا النداء، كان اتفاق شرم الشيخ فعلاً بداية ثورةٍ إبراهيمية جديدة — ثورةٍ تنقذ الإنسان من ظله، وتعيد للسلام معناه المقدّس.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading