الاحتجاجات في المغرب: أزمة الوساطة وبحث عن بدائل.

رحال الانصاري11 أكتوبر 2025Last Update :
الاحتجاجات في المغرب: أزمة الوساطة وبحث عن بدائل.

د . جميلة مرابط
رئيسة مجلس الباحثات المتعدد التخصصات.

الاحتجاجات التي يعيشها المغرب اليوم ليست مجرد ردود فعل عابرة على موجة غلاء المعيشة أو أوضاع اقتصادية ظرفية، بل هي في جوهرها تعبير صريح عن الوضع المزري الذي تعاني منه قطاعات أساسية وحيوية مثل الصحة والتعليم، حيث أصبح المواطن المغربي يشعر بأن أبسط حقوقه في الولوج إلى خدمات عمومية منصفة وعادلة لم تعد مضمونة، وأن الدولة لم تنجح في توفير مدرسة عمومية قوية ولا مستشفى يضمن العلاج اللائق للجميع. هذه الأزمة الاجتماعية المتفاقمة دفعت الناس إلى الشارع للاحتجاج وإلى الفضاء الرقمي للتعبير عن غضبهم، في وقت غابت فيه الأحزاب السياسية عن لعب دور الوساطة والدفاع عن المطالب الشعبية. فرغم أن الدستور المغربي، خاصة في فصله السابع، جعل من الأحزاب ركيزة أساسية في تأطير المواطنين والمشاركة في ممارسة السلطة، فإن الواقع كشف عن عجزها عن الاضطلاع بوظيفتها، إذ انحرفت عن مسارها الطبيعي وتحولت إلى مجرد ماكينات انتخابية تُستحضر في الاستحقاقات الانتخابية أكثر مما تُستحضر كقوى اقتراحية قادرة على إنتاج سياسات عمومية فعالة.
هذا الضعف في التمثيلية خلق فجوة واسعة بين الشارع والمؤسسات الحزبية، وجعل المواطنين ينظرون إلى هذه الأحزاب باعتبارها جزءًا من المشكل بدل أن تكون أداة للحل، وهو ما ساهم في أزمة ثقة عميقة لم يعد من السهل تجاوزها. الدليل على ذلك أن مختلف موجات الاحتجاج التي شهدها المغرب خلال السنوات الأخيرة، كلها جرت خارج الأطر الحزبية التقليدية، واعتمدت على قوة التنظيم الذاتي للمجتمع، مما يبرز بجلاء أن الشارع لم يعد ينتظر من الأحزاب الدفاع عن مطالبه بقدر ما ابتكر آليات جديدة للتعبير عن الغضب والضغط المباشر .
ومع ذلك، فإن غياب الأحزاب لا يعني الاستغناء عن السياسة، لأن المطالب الاجتماعية، حتى وإن عبّرت عنها الشوارع، تحتاج في نهاية المطاف إلى قنوات مؤسسية وتشريعية حتى تتحول إلى سياسات عمومية ملزمة.
لذلك يفرض الوضع الحالي إعادة التفكير في شكل الممارسة السياسية ببلادنا، ليس عبر إلغاء الأحزاب، بل عبر إعادة ابتكارها وتجديدها من الجذور، من خلال قوانين تفرض الشفافية والديمقراطية الداخلية وتجديد النخب، وتحويلها من أدوات انتخابية إلى مختبرات تفكير وإنتاج حلول. وفي موازاة ذلك، فإن الحركات المدنية المنظمة، سواء كانت شبابية أو بيئية أو اجتماعية، أبانت عن قدرة هائلة على جمع الناس حول قضايا ملموسة، وهي مؤهلة لتتحول إلى قوى مطلبية وضاغطة لها وزن في النقاش العمومي. كما أن التطور الرقمي يتيح إمكانات واسعة لاعتماد الديمقراطية التشاركية الرقمية، عبر منصات وطنية تُمكّن المواطنين من المساهمة في صياغة القرار العمومي كما هو معمول به في تجارب دولية رائدة مثل إستونيا وآيسلندا. إلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال الأدوار التي يمكن أن تلعبها الجامعات ومراكز البحث والنقابات المهنية والإعلام المستقل في بناء جسور الوساطة بين المجتمع والدولة، وتغذية النقاش العمومي بأفكار ورؤى بديلة.
إن المغرب في هذه المرحلة الدقيقة لا يحتاج إلى أحزاب بالصيغة الكلاسيكية التي استنفدت وظيفتها وفقدت شرعيتها، وإنما يحتاج إلى منظومة سياسية هجينة ومتعددة الروافد، تجمع بين أحزاب مجددة قادرة على تجديد ثقة الشارع فيها، وحركات مدنية قوية تترجم نبض المجتمع، ومنصات ديمقراطية رقمية تضمن المشاركة الواسعة في القرار، ومؤسسات أكاديمية ونقابية وإعلامية تمارس دورها كقوى وسيطة فاعلة. بهذه الصيغة وحدها يمكن تحويل الغضب الشعبي إلى إصلاحات ملموسة، وردم الهوة بين المواطن والمؤسسات، وفتح أفق سياسي جديد يجعل السياسة مرة أخرى فنًا لتدبير الشأن العام بدل أن تظل واجهة شكلية لا تلامس حاجيات الناس.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading