في زمن تحقق فيه الدبلوماسية المغربية مكاسب نوعية على الساحة الدولية، وتكسب المملكة مواقف متزايدة داعمة لوحدتها الترابية وقضاياها العادلة، يجد مغاربة إسبانيا أنفسهم أمام مشهد إداري بائس، يتنافى تمامًا مع هذا الزخم الخارجي.
فقنصلية المغرب بمدينة إشبيلية، التي يُفترض أن تكون صلة وصل محترفة بين الوطن ومواطنيه بالخارج، تحوّلت إلى نموذج صارخ للفوضى الإدارية وسوء التدبير، بل وإهانة مسترسلة للجالية.
منذ شهور، يعيش المواطن المغربي بإشبيلية يوميات من التذمر والحنق، نتيجة اختلالات عميقة تطال أبسط الحقوق الإدارية. فبدل أن تكون القنصلية فضاءً لتسهيل الخدمات وتيسير الارتباط بالوطن، باتت عنوانًا للبيروقراطية العقيمة، والتأجيل غير المبرر، واللامبالاة المقنّعة بابتسامات باهتة أو ردود مهينة من قبيل “ارجع غدًا”… مع انعدام أي التزام أو وضوح في الرؤية.
المواعيد الرقمية غير مفعلة، الخطوط الهاتفية خارج الخدمة، الردود شبه معدومة، والتعامل مع المواطن يغيب عنه أي بُعد إنساني أو احترافي، والنتيجة: ضياع للوقت، وتعطيل للمصالح، واستنزاف للجهد والمال، في مشهد يُجسّد بؤس الإدارة العمومية خارج حدود المملكة، ويعرّي زيف الخطابات الرسمية حول “الرقمنة”، و”جودة الخدمات”، و”العناية بمغاربة العالم”.
المفارقة الصادمة أن هذا يحدث في وقت تؤكد فيه الدولة، في مناسبات رسمية، على محورية الجالية في السياسات العمومية، وتعد بأن تكون القنصليات المغربية واجهات مشرفة تعكس تطور البلاد وتحترم كرامة المواطن، لكن الواقع في قنصلية إشبيلية ينسف كل هذه التوجهات، ويطرح أسئلة جادة عن المحاسبة والمراقبة، والمسؤولية السياسية والإدارية عما يجري في هذا المرفق المفترض أنه سيادي.
ومع اقتراب ذروة العطلة الصيفية، التي تشهد عادة إقبالًا كبيرًا من الجالية على الخدمات القنصلية، تتفاقم الأزمة، ويحرم كثيرون من زيارة ذويهم في المغرب، بسبب تأخر وثائق، أو ملفات ضائعة، أو غياب موظفين دون إشعار أو بديل، حتى أولئك الذين ينتظرون لأيام وأسابيع، قد يغادرون بلا نتيجة تُذكر، سوى خيبة أمل تتراكم عامًا بعد آخر.
في ظل هذا الوضع المزري، خرجت الجالية المغربية بإشبيلية عن صمتها، ووجهت نداءً عاجلًا إلى وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، تطالب فيه بإيفاد لجنة تفتيش للوقوف على حجم الاختلالات، ومساءلة القائمين على القنصلية، وإعادة هيكلة المرفق بما يليق بتطلعات المواطنين ويستجيب لمهام المرفق العمومي خارج التراب الوطني.
إن كرامة المواطن ليست امتيازًا، بل حق دستوريّ غير قابل للتفريط. وهي تبدأ من احترام وقته في الإدارات، وتوفير خدمات سريعة وشفافة، خاصة لمن يعيشون الغربة أصلاً ويحتاجون إلى سند معنوي ومؤسسي من بلدهم الأم، وإن لم تستطع القنصليات تأدية هذا الدور، فإنها تتحوّل إلى عبء على الدولة، ومصدر نفور لا ارتباط.
رسالة الجالية واضحة: لسنا نطلب امتيازات، بل أبسط الحقوق الإدارية التي تضمن الكرامة، وتحترم الإنسان، وتجسد فعليًا اهتمام الدولة بمواطنيها، فأي معنى للدبلوماسية الناجحة في الخارج، إن كانت الجسور مقطوعة مع من يمثلون الوطن في ديار الغربة؟
إن إصلاح القنصليات لم يعد ترفًا إداريًا، بل ضرورة وطنية ملحّة… فهل من مجيب؟
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.