الأستاذ يوسف عبد القاوي.
محام، عضو مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء
في خضم الجدل المتصاعد حول مضامين مشروع ق.م.م يبقى استحضار مبدأ تقريب القضاء من المتقاضين، وتيسير الولوج إلى العدالة باعتباره أحد مقومات تحقيق المحاكمة العادلة، أمرا بديهيا على اعتبار أنه موضوع ذي راهنية مستمدة بالأساس من سياق التحولات التي تعرفها بلادنا، ومن النقاش الحالي حول مشروع القانون 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية، هذا المشروع الذي تم التصويت عليه في الجلسة العامة بمجلس النواب، على الرغم من أنه تم إعداده في تجاهل تام للمنهجية التشاركية، أو تشاركية صورية وشكلية فقط لم يلتفت من خلالها مهندسوا هذا المشروع إلى آراء ووجهات نظر المتدخلين والفاعلين المباشرين وهم المحامون، والأكثر من ذلك لم تعمل على ملائمة مواده مع مقتضيات دستور المملكة، ومبادئ حقوق الإنسان، خاصة وأن هذا المشروع جاء بعيدا عن روح توصيات ميثاق إصلاح العدالة وتوصيات النموذج التنموي الجديد، ولاسيما تلك التي تؤكد على أهمية جعل القضاء في خدمة المواطن، وعلى أهمية تيسير ولوج المواطنين إلى القضاء، وتوسيع مجال المساعدة القضائية وتقنين المساعدة القانونية، وتحسين أداء المحاكم، والرفع من وتيرة البت في الملفات وتكريس أسس المحكمة الإلكترونية.
لذلك وجد المحامون أنفسهم مجبرون على التوقف عن ممارسة كل مهام الدفاع إلى إشعار آخر دفاعا عن رسالة المحاماة وحق المجتمع المقدس في الولوج إلى العدالة وفي الدفاع كصرخة واعية رافضة لجميع أشكال المس بمهنة المحاماة وبالمحاولات اليائسة لتحجيمها وتقزيمها.
والأدهى والأمر من كل ما سبق ذكره أن مشروع ق.م.م يحمل بين مواده ونصوصه مقتضيات تذهب في الاتجاه المعاكس تماما لمبدأ تقريب القضاء من المتقاضين، ولا تساهم في تيسير ولوج المواطنين للعدالة، بل تقيد هذا الحق وتفرمله من خلال المقتضيات المرتبطة بالغرامات، فضلا عن التراجع الخطير على أهم مكتسبات المواطن المغربي وهو التقاضي على درجات، كما أن هذا المشروع للأسف لم يجسد الإرادة الملكية السامية التي عبر عنها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصرُه الله في خطابه التاريخي لـ 20 غشت 2009، بمناسبة تخليد ذكرى ثورة الملك والشعب وعيد الشباب المجيد، الذي دعا من خلاله الحكومة إلى الشروع إصلاح القضاء في ستة مجالات ذات أولوية، منها الرفع من النجاعة القضائية للتصدي لما يعانيه المتقاضون من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة، وهذا ما يقتضي بالأساس تسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم، وتسريع وتيرة معالجة الملفات، وتنفيذ الأحكام، وتأهيل القضاء ليواكب التحولات الوطنية والدولية، ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الحادي والعشرين، تم الاستجابة لحاجة المواطنين الملحة في أن يلمسوا عن قرب، وفي الأمد المنظور، الأثر الإيجابي المباشر للإصلاح.
ومن جهة أخرى فإنه إذا كان، ولازال، هاجس السلطات العمومية هو تشجيع الاستثمار من أجل خلق مناصب شغل جديدة تخفف من حدة البطالة، فقد تبث أن ذلك لا يمكن أن يتأتى إلا عن طريق تقديم ضمانات قانونية للمستثمر، المحلي والأجنبي، الذي بات يفضل الضمانات ذات الطابع القانوني والقضائي على الامتيازات ذات الطابع الاقتصادي والجبائي.
وفي هذا الإطار، ولنكن صرحاء، فقد عملت الدولة، ولازالت تعمل، من أجل تطوير ترسانة القوانين وجعلها أكثر مرونة، وفي نفس الوقت تقوية البنية التحتية القضائية، وعرصنة وتحديث المحاكم، وتشجيع وتقنين الوسائل البديلة لفض النزاعات.
كما أن راهنية النقاش حول موضوع تقريب القضاء من المتقاضين تجد أيضا سندها ومبررها في هاجس توفير خدمة قضائية قريبة من المتقاضي، داخل آجال معقولة، مع ضرورة تحقيق الجودة والسرعة والفعالية في المنتوج القضائي.
ويحضر هذا الموضوع بقوة، من جانب آخر، ضمن أجندة الفاعلين الدوليين في مجال حقوق الإنسان، كما يؤكد ذلك، على سبيل المثال، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بالتمكين القانوني للفقراء، ومختلف برامج هيئة الأمم المتحدة للمرأة المتعلقة بدعم ولوج النساء إلى العدالة، وإعلان لجنة الحقوقيين الدولية في 12 دجنبر 2012 المتعلق بالولوج إلى العدالة والحق في الاستئناف ضمن الأنظمة الدولية لحقوق الإنسان، وأشغال الفيدرالية الدولية لعصب حقوق الإنسان حول الضحايا والولوج إلى العدالة، وكذا أعمال المنظمة غير الحكومية “وورلد جاستيسبروجكت” عن مؤشر احترام القانون والولوج إلى العدالة.
وقد عكس قانون التنظيم القضائي الجديد من جهته هذا النقاش، وحسم الأمر تقريبا باتجاه توفير خدمة قضائية قريبة من إقامة المتقاضي، وأنه، في سبيل ذلك ألغى تقريبا تجربة التخصص التي عرفها المغرب لمدة طويلة في المجالين الإداري والتجاري، إلا أنه يمكن اختزال مبدأ تقريب القضاء من المتقاضين في حدود تقريب بنايات المحاكم من المتقاضين، على أهمية التدبير، فالمفهوم أشمل وأوسع.
وقد حاول المشرع المغربي أن يقرب القضاء المدني وظيفيا من المتقاضين وذلك عبر إيجاد آليات قانونية تسمح بتصنيف القضايا إلى قضايا كبرى وأخرى أقل أهمية، بحيث جعل الأولى من اختصاص قضاء القرب المنظم بمقتضى القانون رقم 42/10 الذي يختص بالنظر في الدعاوى الشخصية والمنقولة التي لا تتجاوز قيمتها خمسة آلاف درهم، عدا النزاعات المتعلقة بمدونة الأسرة والعقار والقضايا الاجتماعية والإفراغات، وجعل المسطرة أمام قضاء القرب شفوية ومجانية عبر جعلها معفاة من الرسوم القضائية بخصوص الطلبات المقدمة من طرف الأشخاص الذاتيين، وأما باقي القضايا المدنية فقد جعلها المشرع من اختصاص المحكمة الابتدائية بمقتضى الفصل 18 من ق.م.م.
وأما القضايا الإدارية فقد جعلها المشرع من اختصاص القضاء الإداري المحدث بمقتضى القانون رقم 41.90، بحيث تختص هذه المحاكم كما تنص على ذلك المادة الثامنة من قانون إحداث المحاكم الإدارية، ومع مراعاة أحكام المادتين 9و11 من نفس القانون.
وتجدر الإشارة إلى أنه من حسنات مشروع ق.م.م أنه قد جمع شتات النصوص القانونية المؤطرة لهيكلة واختصاصات مختلف المحاكم المتخصصة، بمعنى أننا سنكون أمام نص قانوني واحد ينظم المساطر أمام مختلف المحاكم عوض اللجوء إلى نصوص قانونية، كانت ولا تزال، مشتتة عبر الزمان.
كما أنه أخد بعين الاعتبار مجموعة من المستجدات على مستوى العمل القضائي، وتوصيات الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة وكذا المستجدات المرتبطة بالاختصاص الترابي للمحاكم التي تحمي المتقاضي باعتباره مستهلك لمنتوج العدالة.
I. مقومات الولوج إلى العدالة:
يمكن اختزال مقومات الولوج إلى العدالة في تقريب بنايات المحاكم من المواطن، وتطوير نظام المساعدتين القضائية والقانونية، تقوية دور الدفاع ومقومات أخرى.
1. تقريب المحاكم من المتقاضين:
عملت الدولة جاهدة على تنزيل هذا الهدف الكبير، والتحدي الجدي، لملاءمة التقطيع القضائي مع التقطيع الجهوي لتصبح الجهات الاثني عشر تتوفر على محكمة استئناف على الأقل وفي هذا السياق يأتي خلق محكمة استئناف بمدينة كلميم باعتبارها المدينة الرئيسية بجهة كلميم واد نون.
2. إصلاح نظام المساعدة القضائية وتنظيم المساعدة القانونية:
لعل إصلاح نظام المساعدة القضائية وتنظيم المساعدة القانونية يعدان أبرز مداخل الولوج إلى العدالة تماشيا مع المستجدات التي جاءت بها مقتضيات الدستور الجديد، وتوصيات الحوار الوطني حول إصلاح العدالة، والتزامات المغرب على الصعيد الدولي، البناء على التراكمات في ما يتعلق بإكراهات تطبيق المساعدة القضائية.
ما يمكن الوقوف عنده في هذا الإطار يتمثل بالأساس في جهل معظم المتقاضين بنظام المساعدة القضائية، وهو ما يحرمهم من الاستفادة بهذا الحق الذي يخوله القانون، فضلا عن كون نظام المساعدة القضائية المعمول به هو نظام معقد لا يساعد على استفادة المتقاضين المعوزين منه.
فليس من الضروري أن يكون الإنسان متخصصا في القانون لكي يلمس وجود إشكالية في النص القانوني المرتبط بالمساعدة القضائية، إذ بين الجهل بالقانون المنظم لها، وبين التلاعب الذي يلجأ إليه بعض المتقاضون للاستفادة منها بطرق غير مشروعة، يوجد نظام المساعدة القضائية أمام محك عدم الاهتمام به.
وحتى التجربة إلى غاية يومه في المادة الجنائية فقد أثبتت محدوديتها والسبب بالأساس يرجع إلى التأخر غير المعقول ولا المقبول في حصول الدفاع على الأتعاب بمثابة مصاريف خاصة المحامين الشباب مما يجعل معظمهم غير مبالين بها نظرا لغياب التحفيز على الرغم من المبالغ المهمة المرصودة لها، والقابلة للرفع كل سنتين.
وقد تبنت حديثا الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 شتنبر 2012، وعبرت عن عزمها العمل على ضمان “حق الجميع، بمن فيهم الأفراد المنتمون إلى فئات مستضعفة، في اللجوء إلى العدالة على قدم المساواة”.
كما أن قرار الجمعية ذاتها حول حقوق الإنسان في المنظومة القضائية المتبنى في 16 نونبر 2012 ألح من جانبه بشكل خاص على جانب متعلق جوهريا بالولوج إلى العدالة، هو الحصول على خدمات المساعدة والاستشارة القانونية.
وفي نفس الاتجاه، حث إعلان جوهانسبرغ حول تطبيق مبادئ الأمم المتحدة وتوجيهاتها بشأن سبل الحصول على المساعدة القضائية في نظم العدالة الجنائية (26 يونيو 2014)، الدول على إدماج الولوج العادل إلى العدالة والحصول على المساعدة القانونية ضمن أهداف برنامج التنمية لما بعد 2015.
II. صعوبات الولوج إلى العدالة:
تبقى صعوبة الحصول على المعلومة، وارتفاع الرسوم القضائية، واستمرار المسطرة الشفوية، وعدم إلزامية الدفاع في بعض المساطر، وعدم الدراية بسير أطوار القضية، وبطء المسطرة، وصعوبة التتبع الإلكتروني للقضية، أتعاب الدفاع…إلخ. أبرز الصعوبات التي تواجه المواطنين أثناء ولوجهم للعدالة منها ما تم تجاوزه، أو تجاوز جزء منها، ومنها ما يحتاج إلى نقاش هادئ وبناء.
أما بالنسبة العوائق التي تحد من فعالية الحق في الولوج إلى العدالة كمحدد أولي من محددات المحاكمة العادلة، فقد يمكن اختزالها في المصاريف القضائية المرتفعة، والتي لا تتناسب مع دخل العديد من المواطنين والتعقيدات المرتبطة بالاستفادة من المساعدة القضائية وغياب إطار قانوني للمساعدة القانونية.
على أن أهم عائق قانوني يرتبط بحق الولوج إلى العدالة المغربية، في نظرنا، يبقى هو تعقد المساطر القانونية، وعدم تعميم إلزامية التقاضي بواسطة محام، لأن غير ذلك يؤدي إلى انعدام الشعور بالأمان داخل المحاكم، والسقوط أحيانا في يد السماسرة، وأحيانا التخوف والعدول عن الولوج للعدالة من أجل حماية الحق الشخصي أو الجماعي، وهذا طبعا يدخل في إطار انعدام ضمانات المحاكمة العادلة، لأن هذه الأخيرة كما هو معلوم مفهوم شمولي يبدأ من التشريع القانوني إلى تسيير سبل اقتضاء الحق بشكل سلس، وسلامة الإجراءات أثناء سريان الدعوى والحكم فيها وضمان الطعون، والتقاضي على درجات دون قيد أو شرط، وكذا فعالية التنفيذ حينما يصير الحكم نهائيا. فكل هذه المراحل جزء لا يتجزأ من المحاكمة العدالة.
الشروط الأساسية للمحاكمة العادلة ودورها في تحفيز المتقاضي للولوج إلى العدالة:
إن إصلاح منظومة العدالة لا يمكن أن يتأتى إلا عبر تقوية الموارد البشرية، والبيئة المؤسساتية والأخلاقية وتقوية دور المحامون باعتبارهم من يلعب الدور الرئيسي في منظومة العدالة عبر المساهمة في تحقيق العدالة.
كما أن تبني سياسة للقرب القضائي أضحت مطلبا ملحا في عز النقاش حول التعديلات، وفي ظل المفهوم الجديد للعدالة والذي أسست له المرجعية الملكية سنة 2010، بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية لشهر أكتوبر2010 .
لقد سبق وأن عبر جلالة الملك، غير ما مرة، عن رغبته في المنظومة القضائية، عبر ترسيخ “المفهوم الجديد للعدالة،” بجعلها أكثر قربا وخدمة للمواطن، وتوطد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف، باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، وعمادا للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية، وهكذا وبمناسبة افتتاح الدورة التشريعية لسنة 2010 أسس جلالة الملك مفهوما جديدا لإصلاح منظومة العدالة: “القضاء في خدمة المواطن”. لعموم اللفظ، وإلزامي المبدأ لكل سلطات الدولة وأجهزتها.
وقد كانت، ولا زالت، الغاية القصوى المتوخاة من جعل “القضاء في خدمة المواطن” قيام عدالة قريبة من المتقاضين، وبسيطة في مساطرها، ومعقلنة في سرعتها، ونزيهة في أحكامها، وحديثة في هياكلها، وكفاءة وتجرد قضاتها، ومحفزة للتنمية وملتزمة بسيادة القانون، وبإحقاق الحقوق ورفع المظالم.
وقد أكد جلالة الملك أيضا في الخطاب الملكي السامي ليوم 09 مارس 2011 على أهمية الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، إلى جانب تعزيز صلاحيات المجلس الدستوري، توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه.
– العمل على تسريع وتيرة معالجة القضايا:
يقال أن العدالة البطيئة ظلم، لذلك بات من الواجب والمستعجل ونحن في مرحلة إعادة نظر جدرية في الترسانة القانونية المرتبطة بالمساطر أمام المحاكم أن يتم وضع مقتضيات بمشروعي المسطرتين المدنية والجنائية، تمكن من البت في القضايا داخل أجل معين، مع إحياء اللجان الثلاثية، وتيسير التواصل مع باقي الفاعلين في الحقل القضائي لترشيد الزمن القضائي، ودعم التواصل بين المسؤولين القضائيين وكتابة الضبط، والقضاة، والمحامين، والخبراء وباقي مساعدي القضاء، للوقوف على حاجيات المحاكم وتدليل الصعوبات التي تعترض سيرها سواء على مستوى التجهيز والموارد البشرية وتوحيد العمل القضائي بها والإجراءات وغيرها، والتبني الواضح والصريح للتبليغ الإلكتروني والاستثمار أكثر في ورش رقمنة المحاكم والإجراءات القضائية ودعم الهيئات قصد خلق منصات إلكترونية متطورة.
إن الفرصة مواتية جدا لتنزيل الإرادة الملكية من خلال تشريع يخدم المواطن وليس جهة أخرى، تشريع ينهل من مدارس وتجارب دول رائدة في الديمقراطية واحترام الحرية، تشريع يقوي مكانة الدفاع، وييسر الولوج إلى العدالة وليس تشريع يقيد هذا الحق ويفرمله بالتنصيص على غرامات، والتراجع عن المكتسبات، لعل أقلها التقاضي على درجات.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.