اعتاد ‘جمعه’…. نحيف البنية أدهم البشرة…. كل صباح أن يتزود بكسرة خبز وحبات التين الأسود المجفف ويحمل عصاه بين كتفيه ويتجه بماشيته الجا ئعة الى أقرب المراعي التي يجد فيها راحته وحريته مع أقرانه… أبناء قبيلته المحرومين من أبسط شروط العيش…الغذاء.. الكساء…وحتى التعبيروالحلم….. وعند ما يصل الى مكانه المعتاد….ربوة مطلة على واد جف ماؤه الشتوي….. يجد’ رحمه’ ابنة عمه تنتظرمجيءه… وهي تراقب ماشيتها…فيجلسان على صخرة.. جنبا.. جنبا.. يتقسمان الطعام..و الأحلام ويتبدلان الحديث….وينقشان عليها اسمهما…داخل قلبين مربوطين بسهم ينزف دما…. تعبيرا عن الوفاء والتضحية……وتعرض عليه..عرائسها القصبية المكسوة بقطع من الأقمشة البالية…ولكن كانت تعكس…عفويا…أحلاما وردية برئيه…عاطفية..عذرية.. صادقة…نمت علاقتهما الودية التي حولتهما الى عشيقين متآلفين…..فداع صيتهما بين سكان القبيلة…. ذات خميس، استفاق ‘جمعه’ على شجار أبيه مع أمه… و هويستعد للذهاب إلى سوق القبيلة الأسبوعي.فطلب منه مصاحبته…، لأول مرة يغادر ‘جمعه’.. القبيلة….. وهو يجهل..ماذا يريد أبوه منه؟؟ لايمكن مساءلته….؟؟ سرعان ما وصلا.. قصد به باب المدرسة التي تقع في الجانب الأ يسر من السوق….فدخل ‘جمعه’ وجلبابه الأسود الصوفي يلتوي بين رجليه.. .والعرق بتصبب من جبينه من شدة الحرارة والحياء….وراء أبيه الذي لبى طلب الحاكم الفرنسي من شدة الخوف والاستعباد..حيث استقبلهما رجل طويل القامة أشقر الشعر،أنيق اللباس فاخذ معلومات عنه وعن أبيه فقدم لهم نفسه بأنه ‘المدير’والرائحة الغريبة تفوح منه ومن فمه..يجهلها ‘جمعه’…. فانبهر بعالمه الجديد بعدما ادخل الى أحد الأقسام،حيث وجد ‘معلما’-يرتدي وزرة بيضاء -الذي بدوره أجلسه على مقعد خشبي وهويتحدث اليه بلغة لا يفهم منها الا الحركات الميمية بصعوبة وبمشقة…. توالت الأيام ….و”جمعه”يتعذب… يتفرنس ..يتغرب بين أحضان قبيلته الأطلسية.. المسلوبة…المنهوبة…المغتصبة..والشوق يمخر جسده النحيل..ينهش وجدانه العفيف.. فأصبحت ”رحمه” سر بلاءه وعناءه…بل شعاع حياته…ابتسامة شفاهه…دمعة قلبه…،ينتظر…كل يوم “الأحد”…بفارغ الصبر…أمه…وهي…محملة…بالأطعمة…المفضلة لديه…والمعدة بيديها الكريمتين…المحفوفة بحنانها..المرتوية بدموعها المنهمرة بلا ملل على خديها الوردي من شدة الحياء…ومحملة كذلك بأخبار…أحداث أسرته..عائلته…قبيلته….،هذه المرة، ثارت عواطف ”جمعه”…انتفضت أحاسيسه و مشاعره.. بعد سماع نبأ خطوبة ”رحمه”… بابن الحاكم العسكري الصعلوك…العربيد..الباحث عن كل نزوة…شهوة…لذة بأي وسيلة…وبأي ثمن..ودائما يستحضر”جمعه” بطش الحاكم…أبناؤه…أذنابه الذين يستعبدون سكان القبيلة….يجمعونهم كالأغنام إلى احدى المناطق الغابوية الشاسعة المجاورة….ليقطعوا أشجارها…جذورها…وينقلونها سابحين عبر النهر….طيلة الأسبوع… ففي تلك الليلة…الربيعية…المقمرة…الباردة،لبس ”جمعة” جلبابه الأسود الصوفي…وغادر المدرسة -. ذات الطابع العسكري – رفقة أبناء قبيلته الأشاوس.. الرافضين للذل والانصياع…..الباقون على عهد الأجداد…الأحرار….يسلكون الهضاب…الشعاب..الأودية..للالتحاق بالمقاومين بالجبال الأطلسية الشامخة… …واضعين نصب أ عينهم كيف يمكن استرجاع ”رحمه”…عشيقة الأحرار…أطلسية الطباع…حرة التفكير…صعبة المنال….وهم يخططون…ويقررون…إلى أن دخلوا.. الأشاوس..الأطلسيون.. القبيلة…بادئين بمنزل ابن الطاغية…متخفين …متنكرين..،فتخلصوا من الحراس الأشرار..واحدا تلو الآخر….مستعملين خناجرهم….حيث وجدوا الخنزير..العربيد..غارقا في نومه..مخمورا…بغرفته..،.لكن ”رحمه” الفتاة العفيفة…مكبلة…معذبة..مرمية على الأرض…،.أسرع ”جمعه” إليها… ليفك… رباطها…،فانتزعت خنجر”جمعه” من غمده.. لتطعن ..العربيد..وتتركه يتقلب ويتخبط في دمه القدر..العفن…فضم ”جمعه” حبيبته إلى صدره…وخرجا..رفقة الأبطال …مسرعين…قبل طلوع الشمس،لكن الأقدار لم تكن حليف ”جمعه”و”رحمه” حيث انطلقت صفارات الإنذار في كل مكان….ووضعت قوات الحاكم في حالة…. استنفار..وانطلق الأوغاد يتتبعون آثارهم …ومسالكهم… وهم مدججون بكل العتاد والسلاح…..،فتمكنوا من إصابتهما.. ..برصاصة…..قاتلة… ملعونة..، اخترقت جسديهما…، متعانقين…مبتسمين…مستشهدين..بإحدى”الضايات” الأطلسية ،فانتفض الوادي ..ضبابا .. وتراقص.. الزهر …فواحا بعطره…وعزف.. ماؤه ..لحنا سيمفونيا خالدا..،أيقض الصحوة …لتتلاحم القبائل…ضد كل ..معتد… غاشم….مستعمر…لتنتصر الحرية…الكرامة…والشرف….وأصبحت ”ضاية” ”رحمه”و”جمعه” قبلة… للعشاق…والأحباء….يتبركون….ويستحمون… بمائها…. ضاية: بحيرة صغيرة بوادي..
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.