محاور التقرير
1/ قضية وحدتنا الترابية: تمتين الجبهة الداخلية هو صمام الأمان
2/ جائحة كوفيد 19: المؤشرات الصحية الإيجابية لا تُنسينا التحديات الاقتصادية والاجتماعية العُظمى
3/ المُسلسل الانتخابي: التحضير، الحيثيات، والنتائج
4/ الوضعية السياسية المترتبة عن الانتخابات
5/ توصيف المرحلة وتدقيق المهام السياسية للحزب من موقعه كبديل تقدمي
6/ ما العمل؟ خارطة الطريق بالنسبة للحزب
الرفيقات والرفاق الأعزاء، عضوات وأعضاء اللجنة المركزية؛
ها نحن نعود إلى الاجتماع، حضوريا، بعد أزيد من سنة ونصف، عقدنا خلالها ثلاث دورات للجنتنا المركزية، عن بُــعد، بسبب ما فرضته جائحة كوفيد 19. حيث سنتداول اليوم، على ضوء هذا التقرير، في حيثيات الانتخابات العامة التي أُجريت هذه السنة، وفي إفرازاتها وإسقاطاتها السياسية التي تطرح على بلادنا، كما على حزبنا، تحدياتٍ ومهامَّ جسيمة.
لكن، قبل ذلك، لا بد من أن نُعَرِّج على قضية وحدتنا الترابية، وعلى التحدي الصحي المتصل بالجائحة.
1/ قضية وحدتنا الترابية: تمتين الجبهة الداخلية هو صمام الأمان
إنَّ التطورات التي راكمتها بلادُنا في مُعالجة قضية وحدتنا الترابية، خلال الفترات الأخيرة، تحتاج إلى مواصلة الجهد بثبات، من أجل تكريس الاتجاه العام للمُنتظم الدولي في تبنيه لمعايير الحل السياسي المتوافِقة تماما مع مُبادرة الحكم الذاتي. ويظل تمتين الجبهة الداخلية، ديموقراطيا وتنمويا واجتماعيا واقتصادياً، هو صمام الأمان الحقيقي أمام كل المناورات والتهجمات التي تأتي من خصوم بلادنا. ولا سيما أمام القرارات والاستفزازات الرعناء التي يُقدِمُ عليها الحُكْمُ الجزائري، في مُحاولة انتحاريةٍ منه لإشعال فتيل التوتر والإمعانِ في التعنت، بحثاً منه عن تصريفِ أزمته الداخلية، عبر خُطواتٍ خرقاء ليس فيها فائدة لا للجزائر ولا للمغرب ولا للمنطقة برمتها. وكل ذلك في وقتٍ يواصلُ فيه المغربُ نهجاً يتميز بالنضج والهدوء والاتزان دون تَخَلٍّ عن الصرامة والحزم الضروريين.
في هذا السياق، نُـــنَــوِّهُ، في حزب التقدم والاشتراكية، بالقرار الجديد الصادر عن مجلس الأمن الدولي، أمس الجمعة، والذي ينضاف إلى كل القرارات السابقة للهيئة الأممية، والتي نتطلع إلى أن تُساهم في إيجاد حل سياسي وواقعي، في كنف سيادة بلادنا على كافة التراب الوطني، لهذا النزاع المُفتعل حول صحرائنا المغربية.
وعلى بلادنا، أيضاً، أن تواصل تنويع شراكاتها، والدفاع عن مصالحها العليا، واستقلالية وسياديــة قرارها، بقوة وصلابة وحزم وجرأة وتوازن، من أجل التغلب على عَدَاءِ ومناورات الخصوم، وبغاية الوقوف ندًّا لند أمام تقلبات وانتقائية مواقف عددٍ من الدول، بما فيها دولٌ صديقة وشريكة.
وعلى الرغم من أن هذا التقرير لا يروم التطرق إلى الأوضاع الدولية والإقليمية، إلا أن الحالية في السودان تفرض علينا التأكيد على الخطورة التي تكتسيها التطوراتُ حالياً بهذا البلد الشقيق. حيث أن ما يجري يُعَدُّ انحرافاً عن التوافقات الإيجابية التي اختارتها الأطرافُ السودانية الأساسية في وقتٍ سابق. وهي مُناسبة لنعبر عن أملنا في عودة الهدوء والاستقرار واستئناف المسلسل السياسي، بما يحفظ للسودان وشعبه وحدته وتماسكه، وبما يصونُ طموحه نحو الديموقراطية والتقدم.
2/ جائحة كوفيد 19: المؤشرات الصحية الإيجابية لا تُنسينا التحديات الاقتصادية والاجتماعية العُظمى
سجلت بلادُنا مؤشرات إيجابية في معركتها ضد جائحة كوفيد 19. وهي مناسبة لتوجيه التحية، مرة أخرى، إلى كافة المواطنات والمواطنين، وإلى نساء ورجال الصفوف الأولى للمعركة، لأن هذا التحول الإيجابي هو نتاج الصبر والانضباط وتظافر جهود الجميع. وإذا كانت مجانية التلقيح وتوفيره بشكلٍ كافٍ، تُعَدُّ عوامل إيجابية، فإن ذلك يتعين أن يتعزز بمواصلة اليقظة والحذر والالتزام الصحي.
وحتى ونحن ننوه بهذا التحول الإيجابي المرتبط بجائحة كوفيد 19، من الناحية الصحية، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يُنسينا في الاستراتيجيات التنموية التي ينبغي اعتمادها لبعث الروح في الاقتصاد الوطني ومعالجة الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي تئن تحت وطأتها ملايين الأسر المُستضعفة التي تأثرت، ولا تزال، بالتداعيات الوخيمة اجتماعيا. وهو ما يطرح على بلادنا تحدياتٍ عُــظمى في الحاضر والمستقبل القريب، اقتصاديا واجتماعيا. وهي التحدياتُ التي سنعود إليها في الجزء المخصص لها بهذا التقرير.
وبالعودة إلى المُقاربة الصحية في تدبير الجائحة، فإن حزبنا سبق له أن وقف عند بعض القرارات المتسرعة للحكومة السابقة. والآن تأتي الحكومة الحالية لتتصرف بنفس الشكل في فرض “جواز التلقيح” الذي لا نرفضه مبدئياً، ولكن نعتبر أن اعتماد هذا الجواز، بغض النظر عما يطرحه من نقاشٍ قانوني، كان ضروريا أن يسبقه حوارٌ وإقناعٌ واستشاراتٌ وتواصلٌ وتفسيرٌ وأخذٌ بعين الاعتبار للحالات الخاصة، كما كان ضروريا إتاحة ما يكفي من الوقت أمام كافة المواطنين لكي يتدبروا أمرهم ويُحضِّروا أنفسهم للتعامل السلس مع هذا الإجراء.
في نفس الوقت، فإننا نرفض تمامًا الاساليب العنيفة في مواجهةُ الأشكال الاحتجاجية العادية والسلمية التي بادر إليها مواطنون بشكل حضاري، يضمنه الدستور، للتعبير عن عدم موافقتهم على اعتماد “جواز التلقيح”. وبهذا الصدد، فإنَّ ما يُــثير الاستغراب والاستياء أكثر هو البلاغُ الذي أصدرته رئاسة الحكومة حول الموضوع، وتجاهلت فيه، بشكل مُطلق، النقاش الواسع الذي يروج في المجتمع بمختلف أوساطه، بما فيها العلمية والقانونية والحقوقية، حول “جواز التلقيح”، في إشارةٍ واضحة من هذه الحكومة إلى عزمها نهج سياسة الآذان الصماء، بل سياسة احتقار الرأي العام والتعالي عليه.
3/ المُسلسل الانتخابي: التحضير، الحيثيات، والنتائج
الرفيقات والرفاق الأعزاء؛
تُدركون، من دون شك، أن أبرز محطة وطنية خلال سنة 2021 كانت هي الانتخابات العامة، والتي حَــضَّــرَ لها حزبنا جيداً قبل خوضها، وعياً منه بأنها محطة هامة في المعركة من أجل توطيد الديموقراطية ومن أجل إرساء الأسس السليمة الحاضنة للتنمية، ومن أجل مواجهة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والمتأثرة سلباً بجائحة كوفيد 19.
هكذا، وفي أفق خوض تلك الانتخابات، قدَّم حزبنا أداءً سياسيا وتواصليا قويًّا، من موقع المعارضة الوطنية الديموقراطية البناءة والمسؤولة، ذات المضمون السياسي، والتي اصطف فيها منذ شهر أكتوبر من سنة 2019. ولم يكتف حزبُنا فقط بالدفع في اتجاه تطوير البُعد الديموقراطي للمنظومة القانونية للانتخابات، بل ارتكز أساساً على مدخل الإصلاح السياسي، في منحى تعزيز المسار الديموقراطي؛ وتوسيع فضاء الحريات؛ وإعادة الثقة في العمل السياسي؛ واسترجاع مصداقية المؤسسات المُنتخبة؛ وتقوية أدوار الأحزاب السياسية؛ وتوفير أجواء الانفراج السياسي والحقوقي.
كما قدم حزبُنا، أيضاً، عرضاً سياسيا اقتراحياً طموحاً وواقعياً، بما يُشكل بديلا تقدميا، بلادُنا في أمَسِّ الحاجة إليه. ونُذكِّــرُ في هذا الصدد بكل ما تميز به حزبُنا من إنتاجاتٍ سياسية هامة من موقعه بالمعارضة خلال الولاية السابقة، من قبيل: “وثيقة مساهمة الحزب في إعداد النموذج التنموي”؛ ثم لاحقاً “إسهام الحزب في الميثاق الوطني من أجل التنمية”؛ وكذا “وثيقة اقتراحات الحزب لمواجهة ما بعد الجائحة: من أجل تعاقد سياسي جديد”؛ وأيضاً البرنامج الانتخابي الوطني….إلى غير ذلك من إسهامات وإنتاجات.
من هذه المُنطلقات، لعب حزبنا أدواراً محورية في صفوف المعارضة السابقة، كما في بناء الصيغ التوافقية اللازمة التي مَكَّنَت بلادنا من إنجاح التهييء القبلي للانتخابات، لا سيما على صعيد القوانين الانتخابية التي جاءت بمكتسباتٍ إضافية، مع أنها ليست كافية (تخفيض العتبة؛ تقوية الحضور النسائي؛ تعزيز حالات التنافي؛ انتخابات الجماعات والجهات ومجلس النواب في يوم واحد؛ ……). لقد كان لنا هذا الحضورُ القوي والصيت الواسع، وقمنا بتحركاتٍ قوية، وبذلنا جهوداً تعبوية هائلة، ونحن في موقع المعارضة، وهو ما كَــذَّبَ “تنبؤاتِ” البعض ب”انهيار الحزب” إنْ هو غادر الحكومة ! حيث أن الواقع يُبرهن على أنَّ الحزبَ ارتفعت حيويته وزادت ديناميتُهُ وتَقَوَّى حضورُهُ بعد قرارِ اختياره للمعارضة، سواء على المستوى السياسي، أو على الصعيد التنظيمي والتواصلي والإشعاعي، إلى درجة أن حزبنا صار يتصدر المشهدَ في تنشيط العمل الحزبي خلال الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها.
هكذا، ولأجل ضمان حضورٍ انتخابي شامل وكامل ونوعي في مختلف الدوائر، حرص حزبُنا على تعبئة صفوفه الداخلية، تنظيميا وانتخابيا وبشريا وتواصليا، وعَــمَــدَ إلى تكثيف اللقاءات التحضيرية في الفروع، وذلك على الرغم من اصطدام الحزبِ مُبَكِّــراً مع ظاهرة الارتكاز على المال في استمالة المرشحين، وتوزيع المساعدات على المواطنين لإغرائهم بطرقٍ غير مشروعة؛ ومع ظاهرة استغلال إمكانيات الدولة لتمويل مشاريع آخر ساعة. وهي الظواهر التي ندَّدنا بها في حينها دون أيِّ تحركٍ يُذكر لإيقاف كل ذلك من طرف السلطات العمومية المسؤولة.
ولقد كانت أولُ محطة واجهناها هي موعد انتخاب أعضاء الغرف المهنية، حيث تمكن حزبُنا من ترشيح أزيد من 600 مرشحة ومرشحاً، فاز منهم 82 رفيقة ورفيقاً. وهي نتائج إيجابية تحتاج إلى الترصيد والتطوير، لا سيما بالنظر إلى حداثة اهتمام حزبنا بهذا الصنف الهام من الانتخابات. كما أسفرت مجهوداتُنا عن تحقيق تغطيةٍ انتخابية إيجابية تجسدت في ما يلي: الانتخابات الجماعية: زهاء 10 آلاف ترشيحاً؛ والانتخابات الجهوية: 640 ترشيحاً؛ ثم انتخابات أعضاء مجلس النواب: تغطية 91 دائرة تشريعية محلية و12 لائحة تشريعية جهوية.
خلال كل تلك الجهود النضالية لأجل بلوغ أهداف حزبنا انتخابيا، واجهتنا صعوبتان أساسيتان: الأولى مرتبطة بضعف إمكانياتنا المالية، مما حَــدَّ من قدرتنا على تحقيق تغطيةٍ أفضل برسم الانتخابات الجماعية على وجه الخصوص؛ والثانية متصلة بهشاشة عددٍ من تنظيماتنا الحزبية التي رغم كل نداءات التعبئة ظلت منعدمة التحرك أو ضعيفتَـــهُ، والأدهى أنها في بعض الحالات شَكَّلت عائقا أمام تحقيق أهداف الحزب.
وهي مناسبة، لكي نتوجه بالإشادة النضالية العالية والتهنئة الحارة لكافة الفروع والهياكل الحزبية التي برهنت على يقظتها وحيويتها وديناميتها، وعلى وعيها بدقة المرحلة وأهمية المعركة، فتعبأت وخاضت الاستحقاقات الانتخابية بكل ما يلزم من جدية ومسؤولية ونضالية، وحققت النتائج المرجوة أو اقتربت منها. كما أنها مناسبة للتوقف عند الفروع والهياكل والتنظيمات التي قَــصَّــرَت في أداء مهامها وواجباتها، في إطار تقييمٍ موضوعي، في غضون الأسابيع القليلة القادمة، يتعين أن تترتب عنه الدروسُ الواجبةُ والإجراءاتُ التنظيمية الضرورية والطبيعية.
الرفيقات والرفاق الأعزاء؛
إذا كان حزبُنا، كما أسلفنا الذكر، استطاع أن يُعطي دينامية خاصة لصفوف المعارضة في الولاية السابقة، فإنَّ مرحلة التحضير للانتخابات اتسمت، للأسف، بغياب التزاماتٍ واضحة للأحزاب بالنسبة للتحالفات والاصطفافات الممكنة لما بعد الاقتراع. كما عرفت تلك المرحلة إحجاماً مُمنهجاً للإعلام العمومي عن الانفتاح على الفضاء الحزبي والنقاش السياسي، وهو ما يطرح تساؤلاتٍ جوهرية حول ما يُشَكِّلُهُ ذلك من تنافٍ مع مضامين الدستور ومع المهام المنوطة بهذا الإعلام العمومي على مستوى واجبِ إسهامه في تعزيز الاختيار الديموقراطي وإشاعة الثقافة التعددية.
ثم حَــلَّت فترةُ الحملة الانتخابية التي فرضت ظروفُ الجائحة الاعتماد الكبير، خلالها، على البُعد الرقمي. ومع الأسف، لم يتركز التنافس الانتخابي حول تصورات وبرامج الأحزاب. وبالمُقابل، ما طغى هو مواصلةُ استعمال المال بأشكال واسعة وجديدة، وشراء ذمم الناخبين، مما وضع حزبَنَا، باعتباره حزباً جادا يعتمد على تصوراته ومواقفه وعلى التصويت السياسي، في وضعٍ صعبٍ أمام سلوكاتٍ انتخابية غير قانونية، ومُسيئة للديموقراطية، ومُحتقِرة تماماً لكرامة الإنسان.
إنَّ تأكيد حزبنا على التنديد بظاهرة الاستعمال الواسع والمفرط للمال ليس هدفه فقط فضحُ سلوكاتٍ خارجةٍ عن القانون، وإنما أيضاً وأساساً التنبيهُ إلى ما للظاهرة من انعكاساتٍ سلبية، بل وخيمةٍ، على السيــر السليم للانتخابات، وعلى الترشيحات عدداً ونوعاً، وعلى طبيعة المُــنتخبين. وبالتالي على المؤسسات المنتخبة ومصداقيتها ومنسوب الثقة فيها، وعلى الأحزاب السياسية نفسها، وعلى العمل السياسي بِــرُمَّــتِــهِ، من خلال اختراق كل هذه الفضاءات من طرف أوساط المال الفاسِدة، في ما يُجسد خطرًا حقيقيا وتهديداً جدياً لمسارنا الديموقراطي.
في هذا الخضم، خاض حزبُــنا حملةً انتخابية نظيفة، نزيهة وقوية. وتشهدُ عددٌ من الأوساط بأن الحملة السياسية والتواصلية لحزبنا كانت من الأجود والأفضل بين كل حملات الأحزاب السياسية. وقد تم ذلك بإمكانياتٍ مالية جِــدًّا متواضعة حَدَّت نسبياًّ، كما أسلفنا الذكر، من حجم تغطيتنا، وكذا من قدرتنا على تقديم دعم مالي لمرشحي الحزب. ومع ذلك، فقد بُذل مجهودٌ جبار، مركزيا، على جميع المستويات، تعزز بكل ما بُــذل على المستويات الجهوية والإقليمية والمحلية. وهي مناسبةٌ لنتقدم بجزيل الشكر لكافة الرفيقات والرفاق والمتطوعين والمُتعاطفين الذين سهروا على كل ذلك ليلَ نهار بتفانٍ كبير. هذا دون أن نُغفل ما شَكَّــلَــهُ الرصيدُ المُشرق لحزبنا من خلال برلمانييه، خاصةً خلال التجربة التشريعية السابقة، ومن خلال وزرائه السابقين، من قيمةٍ مُضافة حقيقية بالنسبة لحملتنا الانتخابية النوعية.
وفي يوم الاقتراع، سجلنا خروقاتٍ على مستوياتٍ مختلفة، وعدداً من وقائع التعامل المُخالِف للقانون في بعض مكاتب التصويت، وعدم تسليم المحاضر في حالات محددة، وعدم السماح لممثلي مرشحين من الولوج إلى بعض المكاتب، وتأخراً في الإعلان عن النتائج ببعض الدوائر.
أما على مستوى النتائج، فلا بد في البداية من إثارة الانتباه إلى أن نسبة المشاركة التي فاقت نصف عدد المُسجلين، ولو أنها عموماً تبدو إيجابية لأول وهلة، إلا أن ذلك لا يجب أن يحجب عنا واقع وُجودِ ملايين المواطنين خارج اللوائح الانتخابية، ولا واقع النسب المتدنية للمشاركة في كُبريات المدن عموماً. وهو ما يُثير السؤال من جديد حول مدى جاذبية العملية الانتخابية ومستوى الثقة فيها وفي مُخرجاتها والجدوى منها، لا سيما بالنسبة للشباب والنساء والفئات الوُسطى.
ثم لا بد من التذكير بأن حزبنا نادى دائماً إلى اعتماد الأسس القانونية لصَــوْنِ التعددية السياسية وتوازن المشهد السياسي، وإلى توفير الشروط الصلبة لتُحفَــظَ لكل الهيئات السياسية الفاعلة مكانتها في مختلف المؤسسات المنتخبة. غير أنه في الواقع، وبالنظر إلى ما أشرنا إليه من وسائل وإمكانيات مُستَعمَلَة، أعطت النتائج تفوقاً عددياً لثلاثة أحزاب لم تأخذ أبداً بعين الاعتبار هذا البُعد التعددي، وعقدت، بالمُقابل، تحالفاً حكوميا امتــد إلى الجماعات والمدن الكبرى والجهات، مما أفرز هيمنة وسيطرة هذا التحالف الثلاثي على السواد الأعظم من رئاسات الجهات والمدن الكبرى. وهو ما يؤشر على واقعٍ جديد يتسم باختلال التوازن بين السلط والسلط المُضادة. كما أعطى الاقتراع نتيجةً لم يتوقعها أحدٌ بالنسبة للحزب الذي كان يترأس الحكومة السابقة، تجسدت في انهياره الانتخابي شبه التام.
بالنسبة لحزبنا، لا شك في أنَّ النتائج التي حصلنا عليها هي بمثابة إنجاز سياسي كبير، بالنظر إلى الأجواء والصعوبات التي ذكرناها. فقد حقق حزبنا على صعيد انتخاب أعضاء مجلس النواب نتيجة تاريخية غير مسبوقة، من خلال حصوله على 22 مقعدا، وحصدنا ما يقارب 400 ألف صوتاً. ومَكَّنَ ذلك حزبنا من تشكيل فريق برلماني متكامل يحمل اسم فريق التقدم والاشتراكية. هذا مع العلم أن نتائج الانتخابات التشريعية هي التي تكتسي طابعاً سياسياً أكبر من بين كل أصناف الاقتراع الأخرى.
كما حصل حزبنا على 29 مقعدا في المجالس الجهوية، وعلى رئاسة مجلسين إقليميين هما جرادة وبني ملال، وعززنا بشكل ملحوظ حضورنا في المجالس الجماعية لمعظم المدن الكبرى. وتمكنا من الحصول على 1544 مقعداً جماعياً، وعلى رئاسة حوالي 60 جماعة من بينها رئاسة مدينة جرادة بما يمثله ذلك من رمزية ودلالة مفادها قدرةُ الحزب على اجتذاب وتأطير حركية المجتمع وعلى استمزاج النضال الجماهيري والنضال الديموقراطي بشكل خلاق. وهي مناسبة لتجديد التهنئة لكافة الرفيقات والرفاق الفائزين في جميع الأصناف الانتخابية، وللتنويه بالمجهود المبذول من قِبَلِ كافة مرشحات ومرشحي الحزب.
وفي مقابل كل هذه النتائج الإيجابية، لم نستطع تسجيل حضورنا في غرفة المستشارين، بالنظر إلى ما طبع، مرة أخرى، الاقتراع الخاص بها من ممارساتٍ طغى عليها المال بشكلٍ عارم. كما شابت عملية الإعلان عن النتائج بعض الممارسات الغامضة، حيث أخذنا علماً في لحظةٍ معينة بحصول حزبنا على أصوات في بعض الدوائر، وبعد حينٍ “تبخرت” تلك الأصوات بقدرة قادر، مما يجعلُ سؤالَــنا مشروعًا حول مآلها، وهل تحولت ل”مساعدة” حزبٍ آخر. وهي مناسبة للتذكير بموقفنا المبدئي من الغرفة الثانية، بغض النظر عن موقع حزبنا فيها، حيث نجدد التساؤل حول الجدوى منها في البناء الدستوري الوطني. وحتى إذا لو تم الحفاظ على وجودها فعلى الأقل يتعين إعادة النظر في تركيبتها وطريقة انتخاب أعضائها كما في اختصاصاتها.
4/ الوضعية السياسية المترتبة عن الانتخابات
الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء؛
كما تعــلمون، على إثر نتائج اقتراع 08 شتنبر 2021، تشكلت كما كان مُتوقَّــعاً الأغلبيةُ من الأحزاب الثلاثة الأولى، ثم تشكلت إثرها الحكومةُ في مظهرٍ سياسي حزبي، إنما بعمقٍ تكنوقراطي لا تُخطئه العينُ المتفحصةُ لمكوناتها البشرية. ناهيك عن الخطورة التي ينطوي عليها، في هذا الصدد، الجمعُ عمليا بين السلطة والمال.
وكما كان مُنتظراً، لم يكن في نية حزبنا المشاركة في هذه الحكومة، وفي نفس الوقت لم يُعرَض عليه ذلك. وهو ما يجعلنا نؤكد أمامكم اليوم اختيار حزبنا لموقع المعارضة الوطنية الديموقراطية، البناءة والمسؤولة، كما أعلنا عن ذلك بوضوح بمجلس النواب عند مناقشة التصريح الحكومي. على أساس أن تظل يقظتُــنا موصولةً بخصوص المنطلقات الأساسية التي تشكل الأولوية بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية، وهي تلك المرتبطة بتوطيد الديمقراطية وتوسيع فضاء الحريات، مع ما يقتضيه ذلك راهناً من توفير أجواء الانفراج السياسي والحقوقي وإطلاق سراح معتقلي الحراك ومعتقلي قضايا الإعلام. ذلك فضلا عن تعزيز الاقتصاد الوطني وقدراته على خلق الثروات ومناصب الشغل في إطار سيادة القانون والشفافية والمنافسة السليمة، وكذا العناية بالمسألة الاجتماعية وكرامة الإنسان، وكذا الاهتمام القوي بالشأن الثقافي وبالمسألة البيئية.
ثم لقد تقدمت الحكومة، أمام البرلمان، ببرنامجها الحكومي الذي نُسجل بعض الإيجابيات القليلة المتضَمَّنَة فيه، والمجَسَّدَة في بعض الالتزامات التي فرضتها أساساً وثيقةُ النموذج التنموي وليس إبداعُ أو إرادةُ الأغلبية الحكومية. إلا أنَّ هناك نقائصَ جمة تتخلل البرنامج الحكومي، لعل أبرزها عدمُ تدقيق معظم القضايا المتصلة بالمجال الاقتصادي والميدان الاجتماعي؛ وبمعالجة الإشكالات الكبرى لبلادنا؛ والانعدام شبه التام للالتزامات المرتبطة ببلورة مضامين الدستور، وتوطيد الديموقراطية، وتوسيع فضاء حقوق الإنسان والحريات. و ذلك ما دفعنا، من موقع المعارضة، إلى أن نُــصوت من دون أيِّ تردد ضد هذا البرنامج الحكومي.
في هذا السياق، تقدمت الحكومة بأول قانون للمالية، والذي جاء مُخَيَّباً للانتظارات، وبمنطق محاسباتي لا اجتهاد فيه، ومُفتقِداً لإجراءاتٍ في مستوى خطورة المرحلة وصعوبتها. حيث يبدو عجزُ الحكومة واضحاً في تقديم الأجوبة عن الأسئلة الحارقة للطبقات الشعبية ولأوساط المقاولة، وفي إحداث القطائع الموعودة، وفي ترجمة التوجهات العامة المُعلنة إلى مبادرات ملموسة. ولم تقدم الحكومة أيَّ مخططٍ مدقق، وافتقدت الوثيقة الميزانياتية إلى اللمسة والجرأة السياسيتين. وذلك في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وفي ظل تصاعد نسبة البطالة، واستمرار مُعاناة العمال والفئات المستضعفة والمِهن البسيطة والأسر الفقيرة وساكنة العالم القروي، علاوةً على معاناة الطبقة الوسطى، وصعوباتِ المقاولات الصغرى والمتوسطة.
هكذا، فلا البرنامج الحكومي، ولا مشروع قانون المالية، استطاعا أن يُشفيا غليل المواطنين أو يُقنعهم بقدرة الحكومة الحالية على التصدي للأوضاع الصعبة التي عَــرَّتِ عليها الجائحة، من قبيل هشاشة النسيج الاقتصادي وضعف تنافسية العديد من قطاعاته؛ وتمدد القطاع غير المهيكل؛ وتفاقم ظاهرة الفقر التي تتخبط فيها فئاتٌ عريضةٌ من المواطنات والمواطنين؛ وهشاشةُ أوضاع الشغل والمقاولة والأوضاع الاجتماعية؛ وارتفاع نسبة البطالة؛ واتساع التفاوتات الطبقية ما بين طبقات مهيمنة ومحظوظة تسيطر على معظم الثروات، وبين أوسع الجماهير الشعبية التي تئن تحت وطأة الفقر والحرمان؛ بالإضافة إلى استمرار الفوارق المجالية؛ وجشع بعضِ القطاع الخاص الطفيلي الذي يعيش على اقتناص الريع الاقتصادي؛ وضعف التصنيع؛ واختلال القطاع الفلاحي؛ والتبعية الاقتصادية في قطاعات حيوية؛ وغياب شروط الأمن الغذائي والدوائي والطاقي؛ ناهيك عن المديونية والعجز الميزانياتي المُـــقلقيْن بلا حلولٍ واضحة في الأفق.
إن انتقادنا للبرنامج الحكومي ورفضنا لمشروع قانون المالية ينطلقان أساساً من تساؤلاتٍ مشروعة حول مدى تطابق الشعارات والعناوين مع حقيقة التفاصيل. فاستعارة الحكومة لعبارة “الدولة الاجتماعية” ليس فقط بمثابة سرقة فكرية موصوفة من قِبَلِ هذه الحكومة اليمينية والضعيفة سياسياً، بل إنها مقولة ينطوي توظيفُها على كثيرٍ من المُغالطات التي تروم إخفاء توجهاتها الغارقة في الليبرالية. فلن تنطليَ على أحدٍ محاولةُ تغطية المصالح الاقتصادية للوبيات المالية ببعض “جرعاتٍ اجتماعية” بعضها لا يُسمن ولا يُغني من جوع، وبعضها الآخر لا يد ولا فضل لهذه الحكومة فيه.
على هذه الحكومة اليمينية أن تُصارح الشعب المغربي، الآن وليس غداً، حول كلفة البرنامج الحكومي، وحول الأوراش الكبرى، وحول مقاربتها لإصلاح وصَوْنِ وتقوية المرفق العمومي والخدمات العمومية، وحول كيفيات ومصادر تمويل المشاريع الإصلاحية في المجال الاجتماعي من تعليم وصحة وبنيات أساسية وغيرها، وحول مقارباتها في محاربة الفساد والريع والرشوة وتضارب المصالح والغش والتملص الضريبيين، وحول إصلاح الضرائب والإجراءات الكفيلة بتوسيع وعائها والرفع من مردوديتها والسير بها نحو العدل والإنصاف. على الحكومة أن تُفصح لنا عن تدابيرها لإعمال دولة القانون والشفافية في المجال الاقتصادي وتحريك مؤسسات الحكامة، وأن تقول لنا ما آلياتها لتجاوز التفاوتات المجالية الصارخة.
لكن دعونا نكونُ واقعيين وموضوعيين: هل علينا انتظار الأجوبة؟ أم أن الحقيقةَ ساطعةٌ أمامنا: “لا يجب انتظار شيءٍ يُذكر من حكومة يمينية سيعاني منها الشعب كثيراً”. ولا أدل على ذلك من تدشينها لمهامها عبر قرارات مرتبكة، ووقوفها مُــتفرجةً على ما يكتوي به المواطنون من غلاءٍ فاحش للأسعار، من دون أي تحرك أو مبادرة لحماية الناس، ولا سيما المستضعفين منهم، من هذا الارتفاع الصاروخي لأثمنة معظم المواد الاستهلاكية الأساسية، وذلك على خلاف ما قامت به حكوماتُ بلدانٍ أخرى من إجراءاتٍ لتخفيف الأعباء على مواطنيها. لكننا نُدرك جيداً أنه لا يجب انتظار الإنصاف أو التعاطف من “حَكَمٍ متحيز” أو “حَكَمٍ هو في العمق الخَصْــم”. فسلوكُ حكومةٍ يمينية لن يتسم طبعاً سوى بالميل أينما يميلُ الرأسمال.
5/ توصيف المرحلة وتدقيق المهام السياسية للحزب من موقعه كبديل تقدمي
الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء،
موقعنا الأساسي في المشهد الوطني لا نستمده فقط من نتائج الانتخابات، بل من كوننا قوة تنبيهٍ بناءة، تبحث في معنى الوقائع والأحداث، وتضع الإطار والسياق، وترصد الاختلال، وتفتح الآفاق. ولذلك قراءتنا للأوضاع الحالية، بما فيها ما جرى في الانتخابات الأخيرة، يتعين أن تَــنْــــفـُـــذَ إلى صلب الحقائق، بعمقٍ تحليلي، بعيداً عن أي تشنج أو ردود فعل.
على هذه الأسس، من حقنا، بل من واجبنا، أن نطرح الأسئلة الحقيقية والعميقة، التي يطرحها شعبنا، وسيتنامى طرحها، بأشكال أكثر حدة، إذا واصلت بلادُنا اجترار نفس المقاربات غير المُجدية على المديين المتوسط والبعيد. وهو ما تدل عليه ردود الفعل المواكِبة لأولى خطواتِ هذه الحكومة.
فما معنى ومغزى ما يجري من حولنا؟ وهل هناك إرادة حقيقية في مواصلة بناء الديموقراطية؟ أم أن بلادنا بصدد العودة إلى الوراء في هذا الورش الوطني والتاريخي والحاسم بالنسبة لمستقبل وطننا وشعبنا؟
نعم، لقد عرفت بلادُنا مساراً إيجابياً عموماً، منذُ انطلاق مرحلة التناوب التوافقي وإلى حدود دستور2011، رغم التردد والمد والجزر، ورغم كل الصعوبات الطبيعية في مسار شعبنا وتطلعه نحو التقدم والديموقراطية. وبعد النجاح في اعتماد دستور سنة 2011، في ما يمكن أن نسميه جهاداً أصغر، كان على جميع القوى الوطنية أن تمر إلى الجهاد الأكبر الذي هو بلورة كافة المضامين المتقدمة للوثيقة الدستورية وتفعيلها بشكل قويٍّ وسليم وبتأويلٍ ديموقراطي، وعدم تركها حبراً على ورق. إنما ذلك لم يحدث بالشكل المطلوب والمفروض، للأسف الشديد.
إننا، بالتالي، أمام وضع هش، من سماته: ممارسةٌ ديموقراطية شكلية تفتقد إلى المضمون والعمق السياسيين، بالنظر إلى ما أشرنا إليه من اختراقٍ للفضاء الديموقراطي التمثيلي من قِبَــلِ أوساطٍ فاسدة؛ وانسدادٌ للفضاء السياسي والحقوقي؛ وضعفٌ في الحضور المؤثِّــر للهيئات السياسية ولقادتها في العمل المؤسساتي وفي فضاء الإعلام العمومي؛ وتَــحويلُ النظام الانتخابي من نظام بطابعٍ سياسي إلى نظامٍ بطابع نقدي/مالي؛ مع ترسيخ فكرةِ أنَّ الأحزاب سواسية، في محاولةٍ لوأد التعددية والاختلاف الطبيعي بين المدارس السياسية والفكرية، أي محاولة قتل فكرة الديموقراطية باعتبارها فلسفة وثقافة وطريقة للتدبير والحكامة ومجالا للتنافس الحر.
ولذلك، يُنبه حزبُــنا إلى مخاطر هذا المنحى، وإلى ضرورة تغيير الاتجاه. لأن الفراغ الذي يستشري لن يفرز سوى المُغامرة اليائسة.
في نفس الوقت، هذا الواقع الذي أتينا على توصيفه، ليس وليداً اعتباطياً للصدفة، بل إنه أحد فصول الصراع الطبقي المتواصل، في تمظهراته السياسية، والذي وإنْ اشتدت وطأتُــهُ أو خَــفَــتَــتْ، فإنَّ حقيقته واحدة وهي الصراعُ حول كيفيات توزيع الثروات؛ الصراع بين من يملك كل شيء ومن لا يملك أيَّ شيء؛ بين المُستَغِلين وبين المُستَغَلين.
حقيقة أخرى يتعين علينا مواجهتها، وهي أنَّ القوى الديموقراطية والتقدمية لم تستطع، عبر كل هذا المسار، من تغيير ميزان القوى لصالحها، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، من أهمها انكماشُ اليسار وصعوباتُ الديموقراطية التمثيلية عالميا. إنما اعتقادُنا راسخٌ أنها ليست نهاية التاريخ، وأن المُستقبل للديموقراطية وأنَّ المستقبل لليسار.
في هذا السياق، لا بد لنا من أن نؤكد على أن البناء الديموقراطي يرتهن فعلاً إلى ما يتعين أن تقوم به الدولة أو الأحزاب السياسية، على الأصعدة السياسية والمؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية. لكن المعركة، فعلاً، تهم جميع فئات شعبنا، وخاصة الفئات المتنورة، التي عليها الانخراط القوي في معركة الديموقراطية والدفاع عن الحريات. وهذا الرهان الأساسي هو ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن انتصار الديموقراطية والتقدم مرتبط جدا بمعركة ترسيخ الثقافة الديموقراطية في مجتمعنا. لأنه لا يمكن الحديث مثلاً عن تحقيق هدف التصويت السياسي والقطع مع اختلالات المشهد السياسي من دون تشبعِ المواطن بالثقافة الديموقراطية. كما أن انتصار الديموقراطية مرتبط أيضاً بتحقيق الكرامة للمواطنين لحمايتهم وتحريرهم من الإغراءات والبيع والشراء في ذممهم. ذلك أن استعمال المال لا يفسر وحده كل اختلالات المشهد السياسي، فهناك أسباب أخرى ذات طابع سوسيو ثقافي، من قبيل الفقر والحاجة والأمية.
في المُحصلة، معركتنا كديموقراطيين وتقدميين ستكون أشد شراسةً في الحاضر والمُستقبل، على كافة الواجهات السياسية المؤسساتية، والجماهيرية، والثقافية، والاجتماعية. وسنواصل طريق خوضها بقوة وعزمٍ أكيدَيْن، رغم التراجعات والصعوبات، بثقةٍ في أفكارنا وتصوراتنا، وفي الوعي المتنامي لشعبنا. سنخوضها بحرص شديد على التوجه نحو المستقبل والاجتهاد في فهمٍ أعمق للواقع المجتمعي وتحولاته المتسارعة، وبإيمانٍ راسخ في أنَّ البديل هو معسكر التقدم والديموقراطية المؤهل لفتح الآفاق أمام وطننا وشعبنا.
تأسيساُ عليه، فإننا سنخوضُ هذه المعارك من موقع المُعارضة التقدمية البناءة، طالما أننا أمام حكومة ليبرالية يمينية، ولو أنها بأقنعة اجتماعية لن تلبث أن تسقط أمام امتحان الشعب وتطلعاته. حيث سنعارض، بقوة، كل السياسات اللاشعبية أو اللاديموقراطية، ولن نجد حرجاً في مساندة أيِّ قرارٍ يكون في صالح الجماهير.
حزبنا، إذن، سيواصل بمسؤولية إنتاج المواقف الشُّــجاعة الكفيلة بتحقيق الالتفاف الشعبي حول مشروع الديموقراطية ومشروع التقدم. وسيكون علينا إبرازُ مواقفنا بقوة ووضوح أكبر إزاء قضايا المساواة والحريات الفردية والجماعية؛ وتُجاه العدالة الاجتماعية والمجالية؛ وضرورة الاستثمار في الإنسان وصحته وتعليمه، وفي البحث العلمي، وفي الحماية الاجتماعية؛ والمرفق العمومي؛ ومحاربة كافة أشكال الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي؛ والاستثمار في الثقافة والفنون باعتبارها ثروة لامادية ومُــحَرِّكاً للتغيير ومصدراً لصناعة الوعي الحقيقي للإنسان المغربي.
وسيكون علينا أيضا تجسيد قناعاتنا ومواقفنا في ما يرتبط ببناء اقتصادٍ وطني قوي وشفاف ومُنتِــج للخيرات ولفرص الشغل الحقيقية؛ وباعتماد تصنيعٍ وطني حقيقي؛ مع دفاعنا عن القطاع الخصوصي المسؤول والمواطِن؛ وعن القضايا الإيكولوجية؛ وكفاحنا من أجل مِحورية كرامة الإنسان، ومحاربة الفساد بجميع أشكاله.
وسيكون من مهامنا أيضاً مواصلةُ الدفاع عن تفعيل الدستور بمختلف أبعاده وبتأويلٍ ديموقراطي متقدم كفيل بدمقرطة الدولة والمجتمع، وبتقوية دور الفاعلين السياسيين، وتمتين الفضاء الحزبي والسياسي، وضمان ممارسة الحريات الفردية والجماعية، مع الاعتماد القوي على المؤسسات المنتخبة الممارِسَةِ فعلاً لكافة اختصاصاتها. وذلك في أفق انبثاق وإفراز حكومةٍ وطنيةٍ قويةٍ ومسؤولةٍ تُجسدُ حَـــقًّــا آمال الشعب المغربي وتُــمَــثِّــلُ فعلاً تَــطَــلُّــعَــهُ نحو العيش المشترك الكريم في كَــنَــفِ المَــلَــكِــية الدستورية، الديمقراطية، البرلمانية والاجتماعية.
وسنواصل الكفاح من أجل دفع مسار الانتقال الديموقراطي إلى أبعد مدى، باعتباره جزءً لا يتجزأ من معركة العدالة الاجتماعية. فالبناءُ الديموقراطي، لدينا، يُساوي الثقة والمصداقية والمشاركة والاستقرار، ومن دونه لن يُكتب أيُّ نجاح لأيِّ انتقال تنموي منشود.
ولذلك، يُـصِــرُّ حزبنا، في المرحلة الراهنة، على ضرورة تصفية الأجواء وتوفير مناخ الانفراج السياسي والحقوقي المتلائم مع شعار التنمية، لا سيما عبر اتخاذ مبادراتٍ إيجابية في ما يتعلق بمعتقلي الحراك الاجتماعي وقضايا الإعلام، مع التعاطي بأكبر قدرٍ من الأريحية مع مظاهر التعبير عن الرأي.
وعلى صعيد أعم، حزبُ التقدم والاشتراكية، وانطلاقا من هويته التقدمية ومرجعته الاشتراكية ومبادئه التحررية، عازمٌ على تجسيد البديل التقدمي كصوتٍ يصدح باستنكار تَــرَكُّــزِ الخيرات في أيدي طبقاتٍ وأفراد ومجالاتٍ محصورة، وبفضح ما تتعرض له الثروات الطبيعية من استغلال بشع، وما تقوم به الطبقات الغنية من إمعانٍ في مراكمة الأرباح على حساب الطبقات الفقيرة والكادحة والفئات المُستضعفة، وكشف أسطورة كَوْنِ النظام الليبرالي والمبادرة الحرة هما البديل الأمثل، في مقابل سُطوع حقيقةِ أنَّ الدولة الفاعلة اقتصاديا والحامية اجتماعياً والديموقراطية سياسيا هي البديل، طالما أن التوجهات النيوليبرالية القائمة على عولمةٍ متوحشة وعلى سيادة الرأسمال فاشلة إلى أبعد الحدود في تقديم الأجوبة على الإشكالات الأساسية للإنسان وحاجياته.
6/ ما العمل؟ خارطة الطريق بالنسبة للحزب
الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء،
من الواضح أن التحديات المطروحة أمام بلادنا جسيمة. ولقد حان الوقت لبناء مجتمع ديموقراطي قوي بحرياته ودولة قوية بديموقراطيتها.
وبهذا المعنى، نعتقد جازمين أن الحاجة لا تزالُ قائمة، بشدة، لحزبٍ من طراز التقدم والاشتراكية، المُــؤْمِن باستراتيجية النضال الديموقراطي والجماهيري، والذي استطاع أن يفرض نفسه كمُــكَــوِّنٍ أساسي في الحقل السياسي الوطني.
على هذا الأساس، حزبُنا تنتظره مهامٌّ كُبرى تتطلب أولاً تعميق التفكير المَــلِـيَّ في الحفاظ على وجوده ومكانته وهويته، على غرار كافة مكونات الصف الوطني الديموقراطي والتقدمي. كما تقتضي المرحلة تقوية أداتنا الحزبية وتعزيزها بأجواء داخلية سليمة، إيجابية، ووحدوية، تتلاءم مع حجم الرهانات، للتمكن من ممارسة مهامنا الوطنية والتاريخية بروحٍ عالية وتعبئة متواصلة.
فعلى الصعيد السياسي، نحن مُطالَبُون بمواصلة إنتاج المواقف والاقتراحات والبدائل، وإفراز خطابٍ واضح، جريء، ومتميز، والنضال إلى جانب الجماهير ومن أجل قضاياها المشروعة، وتأطير المواطنين، والحضور في قلب حركية المجتمع، والسعي نحو إحداث التأثير المناسب في الرأي العام، بغاية تحقيق الالتفاف الشعبي الضروري لإحداث التغيير المنشود. وكل ذلك من منطلقاتٍ يسارية تقدمية، حداثية وديموقراطية.
وعلى صعيد التموقع ضمن المشهد الوطني، فحزبنا اعتقادُهُ راسخٌ بضرورة التحالفات. وعليه، سيحرص الحزبُ على القيام بالخطوات والمبادرات الضرورية لتوفير الشروط الملائمة كي تتضافر جهودُ ونضالات القوى الديموقراطية والتقدمية، على أساس المُشترك. في نفس الوقت، فإن حزب التقدم والاشتراكية إذ يعتبر التنسيق مع مكونات اليسار حقلاً ضروريا ومنحىً مبدئيا يعمل من أجله دائماً، فإنَّه مُــدرِكٌ لكون اليسار لا يمكن حصره في الحدود الحزبية الحالية فقط، كما أن التحالفات ليست محصورة في المجال الحزبي فحسب، بل من الممكن أن يتسع ذلك إلى الحركة المواطِنة وحركية المجتمع بديناميته الحقوقية والنسائية والشبابية والمطلبية والنقابية وغيرها.
وعلى الصعيد الأداة الحزبية، يبدو أن المسألة التنظيمية لا تزال مطروحة بقوة، وتزداد حدتها بالنظر إلى المتغيرات المجتمعية الكثيفة. وتُطْـــرَحُ معها أسئلةٌ عريضة وعميقة من قبيل: كيف يمكن أن نجعل شباب اليوم متملكاً لفكرة التقدم والاشتراكية؟ وكيف السبيل إلى إفراز جيل جديد من المناضلين والقيادات بوفاءٍ للأساسيات وتجديدٍ في الأساليب.
أسئلة وأخرى عديدة سنواصل مقاربتها جماعياً بمناسبة بداية التفكير في المؤتمر الوطني الحادي عشر، وفي شروط التئامه ونجاحه. فالمرحلة تقتضي منا تحيين وتعميق النقاش الداخلي حول مواضيع أساسية بعينها: النموذج التنظيمي للحزب؛ تطوير أدوات وضوابط النقد والنقد الذاتي؛ ترسيخ قيم الانضباط الحزبي والشعور بالانتماء ومجابهة الانحرافات؛ إرساء ثقافة الربط بين التنظيم والحضور في حركية ونضالات المجتمع؛ النقاش الفكري من خلال توظيف وسائل التواصل الحديثة؛ كيفيات استنهاض واستثمار الأذرع الفكرية والقطاعية والموازية للحزب؛ مسألة التكوين؛ طرق تعزيز الحضور في أوساط النساء والشباب؛ أشكال التعامل الرقمي بانسجام مع مستلزمات الانضباط الحزبي…إلخ.
على هذا الأساس، وبالموازاة مع التفكير في هذه القضايا الأساسية، فإنه يتعين التصدي، بصرامة، للمخاطر الحقيقية التي تُحْــدِقُ بالحزب وتوجهاته، من خلال التركيز على التكوين والتأطير، والاشتغال بمنطق الأهداف والنتائج، وتثمين نضال القرب على ملفات المواطنين، والعمل على إفراز نخب حزبية مُناضلة على المدى البعيد.
كما ينبغي إعادةُ النظر في التنظيمات والهياكل المحلية والإقليمية والجهوية والقطاعية والموازية للحزب، استخلاصاً للدروس واستــتــباعاً لتقييم الأداء عموماً، وفي معركة الانتخابات على وجه التحديد. وبهذا الصدد لا مناص من اتخاذ وتفعيل القرارات الضرورية والطبيعية من طرف المكتب السياسي بتفويضٍ مطلوبٍ من لجنتنا المركزية، الحريصة بدورها، من دون شك، على تقييم وتقويم أداتنا الحزبية فردياًّ وجماعياً وعلى كافة المستويات.
كما علينا استثمارُ كل الطاقات المجتمعية التي التحقت بحزبنا بمناسبة الانتخابات المنصرمة، وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا ومِهنياً، بدءً بالفائزين والفائزات، دون إغفال من ترشحوا باسم الحزب ولم يتوفقوا، مع فتح آفاق رحبة أمامهم جميعاً للعمل والتكوين، من أجل تجديد دماء الحزب وضخ نَفَسٍ قوي في تنظيماته.
في نفس الوقت، يستلزم الوضع التنظيمي، إلى جانب التأطير والتكوين والاحتضان، إعمال الصرامة اللازمة في مسألة الالتزام والانضباط لمبادئ الحزب. ذلك أنَّ الانخراط في الحزب مسألة حرة وإرادية وطوعية لخدمة المشروع الفكري والسياسي للحزب، وليس من أجل خدمة الطموحات الذاتية والمسارات الشخصية التي لا ترتبط بهذا المشروع الجماعي.
في هذا الإطار، وكما تعلمون، اتخذ الحزبُ، وفق قوانينه وضوابطه، قراراتٍ تأديبيةً في حق بعض مَن كان منتسباً إليه. ويجدر التأكيد على أن الأمر لا يتعلق أبداً بنزوعٍ نحو كبح حرية التعبير التي هي حقٌّ أصيل ومبدأ راسخ في الحزب، والمكتبُ السياسي هو أول الحريصين عليه والسهر على ضمان ممارسته. بل إنَّ قرار الإبعاد من صفوف الحزب كان ضروريا، بل حيويا، لإيقاف سلوكات التجزيء والفوضى العارمة والسب والشتم والقذف على مواقع التواصل الاجتماعي التي يُفترض أن تكون منصة لترويج خطاب الحزب ومواقفه وتوجهاته، وليس من أجل الإساءة والتشهير في حق الحزب ومُناضليه. لقد كان لازماً الرجوعُ إلى المنطق السليم القاضي بتلازم الحقوق والواجبات. وفي النهاية لا أحد له الحق في أن يَـــتَــبَــرَّمَ من تطبيق القانون الذي لا يُعتمد من أجل تجاوزه أو وضعه فوق الرفوف. وعلى كل حال، فإن لجنة المراقبة السياسية والتحكيم سوف تعرض خلال هذه الدورة على أنظار اللجنة المركزية تقريراً في الموضوع. وبعده، سوف تطلع اللجنة المركزية، أيضاً، على تقريرٍ حول الوضعية المالية للحزب.
في ختام هذا التقرير، أدعوكم جميعاً، رفيقاتي رفاقي، إلى أن نكون في مستوى 78 سنة من وجود حزبنا العتيد في الساحة الوطنية، بأفكاره وتصوراته، بمبادئه وقيمه، بتوجهاته وضوابطه. إنه وقتُ مواصلة النضال والعمل على كل الواجهات خدمةً لتطلعات شعبنا نحو الديموقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.