في البداية، أود أن أشكر السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية و السيد رئيس النيابة العامة، على هذه الدعوة الكريمة والتي نعتبرها مظهرا ملموسا للعمل المشترك والتكامل المؤسساتي والوظيفي بين مختلف المؤسسات المعنية بتجويد الحكامة وتخليق الحياة العامة ومكافحة الفساد.
وإنه لشرف لي أن أشارك اليوم في أشغال هذه الندوة الوطنية التي تنعقد على إثر صدور مدونة الأخلاقيات في الجريدة الرسمية، والتي تأتي في سياق دقيق تميزه مجموعة من المؤشرات الإيجابية والمتزامنة، تصب في اتجاه تثمين المكتسبات وفتح حقبة جديدة من الإصلاحات والتحولات العميقة ببلادنا تضمن لها الرقي الى مستوى الدولة الصاعدة ولمواطنيها الكرامة والرفاهية.
ولعل أبرز هذه التوجهات المؤطرة، المصادقة السامية لجلالة الملك على النموذج التنموي الجديد لبلادنا إذ أكد تقرير اللجنة الخاصة على “أولوية المصلحة العامة، كشرط أساسي للتعبئة الجماعية في خدمة مصالح الأمة، وتدعيم قيم الأخلاقيات والنزاهة، وذلك من خلال تخليق صارم للحياة العامة ولُزوم إعطاء القُدْوَة من طرف المسؤولين العموميين”.
كما أن نشر مدونة الأخلاقيات القضائية، موضوع لقائنا اليوم، التي ترمي إلى إشاعة وتعميم المبادئ الأخلاقية، والمعايير السلوكية والمهنية، والحث على احترامها داخل المنظومة القضائية، يأتي في إطار تعزيز مسار الإصلاح الشامل لهذه المنظومة ذات الأهمية البالغة في إرساء قاعدة صلبة للنموذج التنموي المستهدف، وذلك لما تمثله كعمود فقري لدولة الحق والقانون.
وفي نفس الاتجاه، الذي يرمي إلى توسيع وتقوية الصرح المؤسساتي والتشريعي في مجال الوقاية من الفساد ومحاربته والدفاع عن سمو القانون، تم، مند بضعة أسابيع، نشر القانون 46.19 الخاص بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، بالجريدة الرسمية، ومن خلاله حرص المُشَرِع على التنزيل الأمثل للمقتضيات الدستورية ذات الصلة بهذه الهيئة.
وهكذا تَم توسيع مفهوم الفساد المشمول بتدخل الهيئة، الذي أضحى يتضمن بالإضافة إلى الأفعال التي تشكل جرائم فساد، المنصوص عليها في القانون الجنائي، جميع المخالفات الإدارية والمالية طبقا للفصل 36 من الدستور، بما سيمكن من المساهمة الفعالة في تخليق الحياة العامة ونشر قيم النزاهة والشفافية والأخلاقيات والحكامة الجيدة في القطاعين العام والخاص وفي المجتمع ككل.
وفي نَسقٍ يضمن العمل المشترك والتكامل المؤسساتي، أوكل القانون المذكور لهيئة النزاهة، مسؤولية وضع التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة في مجال الوقاية من الفساد ومكافحته، وكذا الآليات والتدابير الكفيلة بتنفيذها، مع الاختصاص بالإشراف وتنسيق وضمان تتبع تنفيذ السياسات العمومية المنبثقة عنها وتقييم فعاليتها وأثرها.
كما خص الهيئة، بصلاحيات تَلَقي ومعالجة التبليغات والشكايات والتصدي التلقائي لأفعال الفساد التي تصل إلى علمها والبحث والتحري بشأنها، وتحويلها، بعد التأكد من صحة الأفعال المتعلقة بها، إلى قضايا قادرة على أن تأخذ طريقها نحو سلطة المتابعة التأديبية أو الجنائية.
حضرات السيدات والسادة
فكما لا يخفى عليكم، يكتسي موضوع القيم والأخلاقيات القضائية أهمية كبرى لتدعيم مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة في العمل القضائي.
وفي هذا الإطار، اسمحوا لي أن أُذكر بأن المجتمع الدولي أَوْلى أهمية خاصة لهذا الموضوع، من خلال مختلف الإتفاقيات الدولية والإقليمية ذات الصلة بالوقاية من الفساد ومكافحته والتي اعتمدتها بلادنا، كاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تحث، على الخصوص، على وضع مدونات ومواثيق لعمل المحاكم والقضاة من أجل إرساء الإلتزامات الأخلاقية والقِيمِيَة التي يتعين اعتبارها مرجعا وإطارا عاما للسلوك المهني والشخصي .
ولأن وجود مدونة الأخلاقيات يُعتبر من التدابير الوقائية من الفساد، التي من شأنها تعزيز النزاهة والمسؤولية، فقد نصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في مادتها الثامنة على أن الدول الأطراف مدعوة إلى أن تُطبِق “ضمن نِطاق نُظُمِها المُؤسسية والقانونية مدونات ومعايير سلوكية من أجل الأداء الصحيح والمُشَرِف والسليم للوظائف العامة”، وعلى أن تنظر أيضا في اتخاذ ” تدابير تأديبية … ضد الموظفين العموميين الذين يخالفون المدونات أو المعايير المَوْضوعَة “.
حضرات السيدات والسادة
من نافِلَة القول إن السياق الذي جاء في إطاره وضع هذه المدونة للأخلاقيات ببلادنا يندرج ضمن مسار تعزيز عملية الإصلاح الشامل للعدالة الذي انطلق قبل بضع سنوات، كما يجد سنده في تنفيذ مقتضيات المادة 106 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
وعليه، فإذا كان الهدف الأساسي من وراء مدونات الأخلاقيات هو وضع مرجع واضح للمبادئ والقواعد التي يجب على القضاة الالتزام بها للحفاظ على استقلاليتهم وتمكينهم من ممارسة مهامهم بكل نزاهة وتجرد ومسؤولية، مما يضمن صيانة وضعهم الاعتباري والمهني وصيانة هيبة الهيئة القضائية التي ينتسبون إليها، فإنها تسعى بالموازاة إلى حماية حقوق المتقاضين وسائر مرتفقي المنظومة القضائية، والسهر على حسن معاملتهم في إطار الاحترام التام للقانون، و تأمين استمرارية مرفق القضاء وحسن سيره، بما يُمَكِن من دَرْء فُرص ومَخاطر الفساد وبناء الثقة وتدعيم صورة الجهاز القضائي. كما أن مدونات الأخلاقيات من شأنها تحسين الفعالية والنجاعة وتعزيز قيم النزاهة والشفافية وتوفير مَرجعية مَوضوعية للتقييم والمحاسبة.
حضرات السيدات والسادة
من المؤكد أن سلطة قضائية مستقلة ومحايدة تعتبر ركنا أساسيا لحماية حقوق الإنسان، كما أن نزاهة القضاء تشكل حجر الأساس في الأنظمة القضائية القوية وشرطا مُسْبَقا وضروريا لسيادة القانون، والحق في محاكمة عادلة، وصيانة الحقوق، وكسب ثقة المرتفق في القضاء .
وإني لأجدها مناسبة لأوكد على أن كل هذه المؤشرات والمبادرات الإصلاحية تُعَضِد الانتقال نحو مرحلة جديدة في الوقاية من الفساد ببلادنا ومحاربته، باعتباره خيارا حتميا لإحداث تغيير عميق في مستويات المنحنى الذي تعرفه هذه الآفة، بعدما أكدت كل المعطيات التشخيصية، التداعيات غير المسبوقة في جل الدول، لآفة الفساد على اهتزاز الثقة العامة في المؤسسات وفي مختلف الجهود المبذولة. ذلك أن الإدراك العام الذي يتغذى على الشعور بالتعرض للشطط، أو لاستغلال النفوذ، أو للظلم، أو للمحسوبية والامتيازات، أو لمختلف صور الفساد، والمصحوب بالإحساس بعدم المساءلة إزاء سلوكات إجرامية وأخرى مخالفة للقيم وللمصلحة العامة، يُفاقِم انعدام ثقة المواطنين في ما بينهم ، وثِقتَهُم إزاء المؤسسات.
كل هذا، يتطلب إطارا مؤسساتيا متجددا وقويا تلعب فيه المؤسسات الدستورية المعنية بالحكامة الجيدة والتقنين إلى جانب الجهاز القضائي دورا محوريا في خلق الشروط الضرورية لاكتساب الثقة وترسيخ أسس الانتقال الى النموذج التنموي الجديد المنتظر وتحقيق أهدافه الرامية الى ضمان الرفاهية والاستقرار في ظل مجتمع متماسك قوي ومعبئ لتحديات بناء المستقبل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.