قراءة متأنية للمنتوج الاعلامي المغربي بمختلف تلاوينه وتوجهاته الفكرية والإيديولوجية والاقتصادية تجعل كل متتبع ومختص يتساءل عن مدى قدرة هذا الاعلام في صناعة ثقافة التغيير التي يتطلع اليها المغاربة والتي تحرض المواطن المغربي على الانتقال من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الانتاج والابتكار والابداع، وهو تساؤل مشروع يستوجب التشخيص والتمحيص والتحليل وفتح نقاشات جدية ومسؤولة للارتقاء بإعلامنا الوطني وإصلاح الاعطاب التي تنخره حتى لا تؤدي هذه الاعطاب إلى نخر الوعي المجتمعي وتدميره ومن ثمة تدجين العقل المغربي وتنويمه وتخضيره بسموم قاتلة لطاقاته .
وبدون شك أن الكل يتفق ويجمع على أن ساحتنا الاعلامية مليئة بالشوائب والألغام الفتاكة خاصة مع تنامي الصحافة الرقمية التي يرتمي في أحضانها كل من هب ودب، في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون الجسم الاعلامي يخضع باستمرار للتطبيب والتتبع والمواكبة حتى لا ينزلق عن الطريق الصحيح عن قصد أو غير قصد.
قبل الحديث عن حرية التعبير وحرية الولوج للمعلومة، ينبغي وجوبا الحديث عن ماهية الاعلام والصحافة، وظائفه وضوابطه وأخلاقياته وحدود مسؤوليته وكيفية استثماره للمعلومة وكيفية إيصالها للجمهور والرأي العام لأنه سيكون من العبث الحديث عن حرية الصحافة والولوج للمعلومة إذا كان الكاتب “الصحفي” غير ملما بمهمته وغير مدرك لدوره ولا يستوعب معان وأبعاد المفردات التي يصيغ بها مواده الاعلامية سواء كانت مكتوبة أو سمعية أو بصرية، زد على ذلك ضرورة تمكّنه من ضبط التغيرات المجتمعية ومواكبتها عن كثب .
وفي هذا الصدد، قبل أن أتطرق إلى الأعطاب التي تنخر الجسم الاعلامي المغربي، تجدر بنا الاشارة إلى التأكيد على أن هذا الجسم ينقسم إلى ثلاث مكونات أساسية : الاعلام الرسمي ، الاعلام الحزبي والاعلام المستقل.
الاعلام الرسمي:
أي متتبع لإعلامنا الرسمي سيخرج بقناعة راسخة مفادها أن الجهات الوصية على هذا القطاع بمعية المسؤولين المباشرين يفتقرون لرؤى إعلامية وطنية ويساهمون بطريقة أو أخرى، عن قصد أو غير قصد، في احتقار الشعب المغربي واستفزازه بشكل فظيع جدا، وفي تغيير سلوك وعقلية المواطن نحو كل ماهو سلبي وسلب قيمهم المتأصلة في هوية المجتمع المغربي وحصوصياته. إذ أن أغلب البرامج التلفزية لا تستجيب لاهتمامات المغاربة ولا تعطي إجابات على تساؤلات مجتمعية عالقة، ولا تحترم خصوصيات وثقافة المغاربة.
باستثناء مواكبته للأنشطة الرسمية ، تبقى برامج ونشرات الاعلام الرسمي مستفزة لمشاعر المغاربة ومخربة لأخلاقه وسالبه لثقافته الاصيلة وهويته مما يهدد مجتمعنا بالتفكك الاسروي والانحلال الأخلاقي وطغيان الثقافة المادية على قيم التضامن والتآزر والتكافل الاجتماعي وحلول ثقافة اللاثقة محل الثقة، وإذكاء العنف وتغذية الجريمة.
يضاف إلى ذلك أن الاعلام الرسمي لا يستحضر أبعاد التضامن العربي في وجدانه وبرامجه المبثوثة، أذكر هنا على سبيل الذكر لا الحصر، عندما كانت القنابل العنقودية الاسرائيلية تقتل أبناء غزة ، كانت القنوات الرسمية تبث عبر برامجها سهرات الشطيح ولرديح والقهقهات الاستفزازية، ونفس الشيء حصل إبان قيام طيران حلف الناتو بإمطار أطفال ليبيا بالقنابل العنقودية والانشطارية والفسفورية ودك بيوتهم على رؤوسهم.
الاعلام الحزبي:
جميل جدا أن تقوم الصحافة الحزبية بالتسويق لأنشطة الاحزاب التابعة لها وبرامجها وتصوراتها، ولكن من غير المقبول أن تنخرط هذه الصحافة في بث الفتنة بين الاطياف السياسية والانخراط الكامل في التضليل الاعلامي والافتراء على الرأي العام والتطبيل لهذا الشخص أو ذاك.. وهذا راجع إلى أن التعددية الاعلامية الحزبية في مجتمعنا لا تؤمن إيمانا حقيقيا بثقافة مستنيرة متوافقة مع متطلبات النظام الديمقراطي ،وهذا الامر له تأثيرات سلبية خطيرة على المجتمع إذ أنه يساهم بطريقة أو أخرى في تفتيت النسيج الاجتماعي وانشطاره ويؤدي كذلك إلى غرس بذور الكراهية والحقد والغل، وهو ما يؤدي في النهاية إلى فتح شهية أطراف أجنبية للتدخل في شؤوننا الداخلية.
وبالتالي أصبح من الضرورة بمكان أن يقوم الاعلام الحزبي بتغيير سلوكه وبوصلته نحو الوطن وأن يتحرر من النظرة الحزبة الضيقة ، لأن هذه الأخيرة ستقوده حتما إلى الانحراف الاعلامي نحو مسارات تتناقض مع اهدافه الحقيقية التي يشكل تغيير الواقع نحو الافضل احد ابرز أهدافه.
الاعلام المستقل
لا أحد ينكر الدور الذي لعبه الاعلام المستقل في خلخلة المجتمع والتأثير على الرأي العام والدفع به إلى المساهمة في التغيير المجتمعي الإيجابي وتصحيح المسار الديمقراطي ولو بشكل نسبي….مؤشرات هذه الخلخلة الاجتماعية تعكسها المقاومة الشديدة التي أبدتها رموز الفساد ورموز الريع السياسي والنقابي ضد الاعلام المستقل من خلال مصادرة العديد من الصحف والتضييق على عدد كبير من الصحفيين وجرهم للمحاكم وتفليس مؤسساتهم الاعلامية عبر إثقالها بالغرامات المالية.
إلا أنه مع تنامي الصحافة الرقمية وفتح المجال لمن هب ودب لممارستها، تسبب إلى حد ما في إصابة الصحافة المستقلة بنوع من التلوث والبلطجة الاعلامية والعهر الاعلامي وكثير من الأمراض المعدية للوعي الاجتماعي والسياسي والتأثيرات السلبية.
من جملة هذه الأمراض نذكر أن العشرات من المواقع الالكترونية أصبحت متخصصة في ممارسة الدعارة الاعلامية والبلطجة والابتزاز بمبررات واهية، إذ أنه عوض أن تتناول القضايا الأساسية والجوهرية التي تهم المواطن وانشغالاته، نجد بعضها اختارت طريق مهاجمة رجال المال والاعمال وإلباسهم تهما ثقيلة دون توفرها على حجج ثبوتية، في حين أن هذا النوع من المناولة الاعلامية يندرج ضمن أجناس التحقيق، وهذا الأخير له قواعده وضوابطه وتقنياته، وأن أي تحقيق صحفي ينبغي إلزاميا أن يكون مرفوقا بحجج ثبوتية لما ورد فيه…وبالتالي فإن أي “مقال” يكيل اتهامات لشخصية معينة كالتورط في صفقات مشبوهة أو اختلاس المال العام دون وثائق ثبوتية يعتبر في علم الصحافة ابتزازا علنيا، وهذا الأمر يؤشر إلى أن الاعلامي الذي ينتج هذه “المقالات” يجهل تمام الجهل ضوابط وطبيعة العمل الذي يمارسه.
وضمن نفس إطار الاعلام الرقمي، نسجل أيضا من خلال زيارتنا اليومية لعدد من المواقع الالكترونية أن عدد لا بأس به منها انخرط في العهر الاعلامي عن قصد أو غير قصد من خلال التركيز على المواضيع الحميمية ومواضيع الاثارة والتركيز على تقنية “نسخ لصق” دون الاشارة للمصدر ودون احترام حقوق الغير، وهذا السلوك يندرج ضمن جرائم السرقة الموصوفة والقرصنة، زد على ذلك من دون التأكد من صحة الخبر أو عدمه، مما يسهم بطريقة غير مقصودة في تسويق الأكاذيب وتضليل الرأي العام. وهذا لسلوك سيؤدي حتما إلى انعكاسات خطيرة كالانحلال الاخلاقي وتغذية الجريمة وإذكاء فيروسات الكراهية بين الناس وزعزتة ثقتهم في المجتمع وفي مؤسساتهم.
ومن حسن الحظ أن الاعلام الرقمي ليس كله يسير على درب هذا المنوال، بل يجب الاقرار أن هناك العشرات من العناين الرقمية تسير في الطريق الصحيح بطريقة مهنية واحترافية وموضوعية وحيادية، وتميز بين الاجناس الصحفية وتعطي لكل جنس حقه بشكل متزن ومرن ومتوازن.
خلاصة القول، لقد حان الوقت لتقنين الممارسة الصحفية والاعلامية وتنظيف الصحافة الرقمية من العناوين الملوثة والمريضة حتى لا تنتقل عدوى أمراضها إلى سلوك المواطنين، لأننا نريد إعلاما وطنيا صادقا يتفاعل مع انتظارات وتطلعات المواطنين ووسيطا بينهم وبين الجهات الرسمية ويساهم في تقوية الوعي الاجتماعي والوطني، ولأننا نريد إعلاما يعري واقع الامراض التي تنخر المجتمع وكرامة المواطن وويعطل مسار البناء الديمقراطي والتنموي ببلادنا، بطريقة علمية ومهنية واحترافية ويؤسس لثقافة التغيير الايجابي داخل المجتمع ويساهم في تقوية تلاحم لحمة النسيج الاجتماعي للوطن.
بقلم /محمد القاضي
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.