الثلج والجبل: ميدلت بين قسوة الطبيعة وحضور الدولة

abdelaaziz6ساعتين agoLast Update :
الثلج والجبل: ميدلت بين قسوة الطبيعة وحضور الدولة

بقلم: محمد اكن

ليست الثلوج التي غطّت قمم إقليم ميدلت خلال هذه الفترة مجرد ظاهرة مناخية عابرة، بل لحظة كاشفة، تعرّي العلاقة المعقدة بين الجغرافيا والسلطة، وبين الهامش والمركز، وبين ما يُقال في التقارير وما يُعاش في الدواوير المعزولة حين تنقطع الطرق ويُختبر صبر الإنسان على قسوة الطبيعة ووحدة المكان. ففي مثل هذه اللحظات، لا يعود السؤال عن حجم التساقطات ولا عن درجات البرودة، بل عن سرعة الدولة في الوصول، وعن قدرتها على تحويل الاختبار الطبيعي إلى فعل إنصاف حقيقي.
ما يلفت الانتباه في هذه المرحلة هو حجم المجهودات الكبيرة والمتواصلة التي يشرف عليها عامل إقليم ميدلت، لفك العزلة عن ساكنة الدواوير المجاورة، خصوصًا تلك الواقعة في مناطق جبلية وعرة طالما عانت من هشاشة البنية التحتية وصعوبة الولوج. لقد تحولت الإدارة، في هذا السياق، من موقع المراقبة إلى موقع الفعل، ومن لغة البلاغ إلى لغة الميدان، حيث جرى تسخير الإمكانيات المتاحة، وتعبئة مختلف المتدخلين، في انسجام يترجم وعيًا بأن الزمن الجبلي لا يحتمل التأجيل ولا الأعذار التقنية.
فتح المسالك الطرقية المغلقة بفعل الثلوج، تأمين وصول المواد الأساسية، مواكبة الحالات الإنسانية المستعجلة، وضمان حد أدنى من استمرارية الحياة اليومية، ليست إجراءات تقنية فحسب، بل مؤشرات على تحول في فلسفة التدبير الترابي، حيث يصبح حضور الدولة في أقسى الظروف معيارًا لشرعيتها الاجتماعية. فحين تصل الجرافات إلى القرى المحاصرة، لا تفتح الطريق فقط، بل تعيد وصل ما انقطع بين المواطن والإحساس بأن هناك من يتذكره حين يشتد البرد.
تجربة ميدلت خلال هذه التساقطات الثلجية تطرح سؤال العدالة المجالية بحدة أكبر: هل يحتاج العالم القروي، وخصوصًا الجبلي منه، إلى الأزمات كي يحظى بالاهتمام؟ أم أن هذه اللحظات الاستثنائية يجب أن تتحول إلى منطلق لإعادة التفكير في سياسات فك العزلة بشكل استباقي ومستدام؟ إن المجهودات الحالية، رغم أهميتها، تكشف في العمق عن رهانات أكبر، تتعلق بضرورة الانتقال من منطق التدخل الظرفي إلى منطق التخطيط الطويل الأمد، الذي يجعل من الجبل جزءًا من معادلة التنمية لا هامشًا لها.
في هذا السياق، يبرز دور عامل الإقليم بوصفه فاعلًا ترابيًا يدرك أن السلطة لا تُمارَس من خلف المكاتب، بل تُبنى في الميدان، وسط الثلج، ومع أصوات الساكنة، وضمن توازن دقيق بين الحزم والإنصات. هذا النموذج من القيادة الترابية يمنح للمفهوم الإداري بُعدًا إنسانيًا، ويُعيد الاعتبار لوظيفة المسؤول باعتباره وسيطًا بين الدولة واحتياجات الواقع، لا مجرد منفذ للتعليمات.
إن ما تشهده ميدلت اليوم يؤكد أن فك العزلة ليس مسألة تقنية مرتبطة بإزالة الثلوج، بل فعل كرامة يعكس مدى استعداد الدولة لحماية مواطنيها أينما كانوا. فحين تحضر المؤسسات في الجبل، في أقسى الظروف، فإنها لا تكتفي بتدبير أزمة، بل تبعث رسالة سياسية وأخلاقية مفادها أن الوطن لا يُقاس بسهولة الوصول إليه، بل بقدرته على الوصول إلى أبعد نقطة فيه.
وحين تنقشع الثلوج وتعود الطرق إلى طبيعتها، سيبقى هذا الامتحان شاهدًا على أن الجغرافيا القاسية لا تُهزم بالطقس وحده، بل بالإرادة، وأن الثقة في المؤسسات لا تُبنى في الأيام العادية، بل في اللحظات التي يشعر فيها المواطن أن الدولة، أخيرًا، لم تتركه وحيدًا فوق الجبل.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading