خلال عشر سنوات تقريبا، من 1969 إلى 1977، ظل هنري كسينجر مهندس السياسة الخارجية الأمريكية. طبق نظرية العلاقات الدولية المعدة والملقنة إبان شغله لمنصب أستاذ في العلوم السياسية بجامعة هارفارد وذلك حين كان على رأس المجلس القومي للأمن وكتابة الدولة -منذ 1972- أو وزارة الشؤون الخارجية. إن هذا الشخص الذي جسد “العشرية الاستراتيجية” لكل من الرئيسين الأسبقين ريتشارد نيكسون وجرالد فورد، يتحدر من عائلة يهودية من الطبقة البرجوازية الصغيرة لاذت بأمريكا سنة 1938 فرارا من النازية. لكونه رحالة لا يمل وواحدا من أنصار الدبلوماسية الفرجوية، تجشم عناء فرض رؤية للعالم حذرة تجاه الإيديولوجيات وذات مقاربة براغماتية لعلاقات القوة على طول الشساعة الممتدة من الفيتنام إلى الشرق الأوسط، ومن موسكو إلى بيكين. كان وراء الاعتراف بالصين الشعبية من طرف الولايات المتحدة. تفاوض مع “لي دوك ثو” حول إنهاء العداء تجاه الفيتنام، بحيث نال عنه جائزة نوبل للسلام سنة 1973. هكذا نجد أنه احتل واجهة المشهد السياسي العالمي. لكن وراء هذا الديكور الباذخ الموضوع من قبل هنري والمتواصلين معه، كانت الكواليس دامية في كمبوديا والفيتنام والهند الصينية وبنغلاديش وفي جزء كبير من أمريكا اللاتينية. بهذا الوجه الآخر والخفي لهنري كسينجر، ??هتم الصحافي كرستوفر هيتكنس، اعتمادا على وثائق سرية من البيت الأبيض وكتابة الدولة ووكالة المخابرات الأمريكية (CIA). لقد بذل مجهودا مضنيا ليبين أن هنري كسينجر بعيد عن أن يكون “ساحر الدبلوماسية” كما وصفه حواريوه. قاد سياسة غامضة وغير فعالة وإجرامية في نفس الوقت؛ وهي سياسة من شأنها أن تكون سببا وجيها لتقديمه لمحاكمة دولية. – جرائم كسينجر
لقد تمخضت مجهودات الصحافي هيتكنس عن كتاب بعنوان “جرائم السيد كسينجر” صدر عن دار النشر “سان سيمون” الفرنسية في مطلع ألفيتنا هاته. سوف لن لن أدعي تقديم قراءة وافية شافية لهذا الكتاب، وإنما حسبي الاكتفاء بالحديث عما جاء في الفصل المخصص للشيلي ولحيثيات مجيء السيء الذكر بينوشي إلى السلطة. بداية من سنة 1962 عملت (CIA) في الشيلي، كما في إيطاليا ودول أخرى مماثلة، على تمويل أنشطة الأحزاب “الموثوق منها” بكرم حاتمي، ومع ذلك حقق مرشح اليسار سالفادور أليندي في الانتخابات الرئاسيةالتي جرت أطوارها في شتنبر 1970 تقدما طفيفا بنسبة 36،2 % من الأصوات. واعتباؤا لانقسامات اليمين ودعم بعض الأحزاب الصغرى – راديكالية ومسيحية – كان من المؤكد أن الكونغرس الشيلي سوف يؤيد صعود سالفادور أليندي إلى الرئاسة، لكن أليندي كان غير مرغوب فيه من لدن اليمين الشيلي المتطرف و (CIA) وبعض الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات مثل بيبسي كولا وبنك مانهاتن. اجتاحت هذه الكراهية بسرعة الرئيس نيكسون الذي كان مدينا لدونالد كندال رئيس بيبسي كولا بقضيته الدولية الأولى حينما التحق كمحام بمكتبه القانوني الكائن بوول ستريت بعدما مني بالفشل في مجال السياسة. كانت سلسلة من الاجتماعات في واشنطن، المنعقدة على بعد أحد عشر يوما من نجاح أليندي، كافية للي عنق السياسة الشيلية. ومباشرة بعد إجراء محادثات مع كندال ومع دافيد روكفيلر من بنك مانهاتن ومع رتشارد هلمس مدير (CIA)، التحق كسينجر صحبة هذا الأخير بالمكتب الإهليلجي في البيت الأبيض. فمن خلال الملاحظات التي دونها آنئذ هلمس يتضح ان نيكسون سلك سبيلا واحدا للإعلان عن نواياه التي يمكن اختزالها في منع أليندي من أداء مهامه السياسية.
تبين وثائق غميسة أن كسينجر، وهو مسؤول عن المجلس القومي للأمن، لم يكن يعرف أي شيء عن بلاد الشيلي التي وصفها بلامبالاة ك “مدية مصوبة نحو قلب القطب الجنوبي”. ومع كل هذا الجهل المطبق، هب لاهتبال تلك الفرصة لأجل كسب ود ولي نعمته نيكسون. وهكذا تشكل فريق بفرجينا حيث يوجد مقر (CIA) وحدد له كهدف واضح سن سياسة “مزدوجة الاتجاه” بالنسبة للشيلي: سياسة دبلوماسية علنية وسياسة – محجوبة عن كتابةالدولة والسفارة الأمريكية في الشيلي – تفضي إلى استراتيجية قائمة على زعزعة الاستقرار والاختطاف والاغتيال في أفق إحداث انقلاب عسكري. – الإعداد للمؤامرة ضد الشيلي عوائق كثيرة اعترضت هذه العملية، خصوصا قبل إلقاء أليندي لخطابه الأول كرئيس جديد. لقد تمثل العائق العويص في الحياد التقليدي للعسكريين تجاه السلطة السياسية، وكانت تلك خاصية ينفرد بها الشيلي عن جيرانه. من الواضح أنه لايمكن لثقافة عسكرية راسخة كهاته أن تعرف النكوص بين ليلة وضحاها. اما العائق الأقل صعوبة فقد تمثل في شخص واحد هو الجنرال روني شنيدر الذي كان يعارض، بصفته قائدا للجيش الشيلي، تدخل الأخير في العملية الديمقراطية. لهذا تقرر في اجتماع عقد يوم 18 شتنبر 1970 ضرورة تنحية الجنرال شنيدر. كانت الخطة تقتضي اختطافه على يد ضباط متطرفين مع الإيحاء بان عناصر يسارية موالية لأليندي هي التي كانت وراء المؤامرة. كان من المؤمل أن يثير الغموض المتولد عن العملية هلعا بين مكونات الكونغرس الشيلي فيسارع إلى رفض رئاسة أليندي. هكذا حدد مبلغ 50 ألف دولار كمكافاة للضابط أو لمجموعة الضباط الذين تتوفر فيهم الشجاعة الكافية للقيام بهذه المهمة القذرة. لكن رتشارد هلمس وأمين سره طوماس كرمسين أعربا لكسينجر عن عدم تفاؤلهما وظهرت الأوساط العسكرية إما مترددة أو منقسمة أو مشفقة لحال الجنرال شنيدر. هذا، وقد صرح هلمس قائلا بأنه حاول أن يبين لكسينجر إلى أي حد كانت إمكانات النجاح ضئيلة ومع ذلك ألح كسينجر على هلمس وأمين سره بان يتواصل العمل مهما يكن من أمر. في يوم 15 شتنبر 1970، أخبر كسينجر بأن ضابطا يسمى فيو من اليمين المتطرف ذو علاقة بحزب يميني قبل تسلم المبلغ المعلوم مقابل إزاحة الجنرال شنيدر من رقعة الشطرنج. بعد ذلك، أعطى فريق “الاتجاه 2” التابع لكسينجر أوامره بإمداد مساعدي فيو برشاشات وقنابل مسيلة للدموع. في مساء التاسع عشر من شتنبر 1970، حاول فريق فلنزويلا، بمساعدة بعض أفراد عصابة فيو المدججين بقنابل مسيلة للدموع زودتهم بها (CIA)، اختطاف شنيدر عند خروجه من حفل عشاء رسمي. فشلت المحاولة لأن شنيدر بكل بساطة صعد إلى سيارة خاصة بدل السيارة الرسمية التي يستعملها عادة. مباشرة بعد فشل هذه المحاولة، أرسل مقر (CIA) عبر التلفون إلى مدبريها رسالة شديدة اللهجة وموحية تم الإلحاح فيها على ضرورة الإقدام على عمل حاسم لأن “المقر ملزم بالإجابة صبح يوم 20 أكتوبر على أسئلة من أعلى مستوى”. غلافان ماليان بمبلغ 50 ألف دولار في كل منهما أعطيا لفلنزويلا ومساعده الرئيسي شريطة ان يعيدا المحاولة في أسرع وقت ممكن. وهذا ما أرادا القيام به مساء يوم 20 أكتوبر. غير ان محولتهما هذه المرة باءت هي الأخرى بالفشل الذريع. وفي يوم 22 أكتوبر، أعيدت الرشاشات “العقيمة” إلى عناصر فريق فلنزويلا لأجل القيام بمحاولة جديدة وفي نفس اليوم تمكنت عصابة روبرتو فيو من اغتيال الجنرال روني شنيدر. حدثت الإطاحة بحكومة أليندي عن طريق انقلاب دام في يوم الحادي عشر من شتنبر سنة 1973 بينما كان كسينجر يجيب على أسئلة مجلس الشيوخ قبل تعيينه كاتبا للدولة. لقد كذب عندما صرح أمام لجنة العلاقات الخارجية بان حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لم تشارك في العملية بأي شكل من الأشكال. ثمة في الأرشيفات عدة وثائق تثبت العكس. يمكن أن نختار منها، مثلا، التقرير عن “الوضعية رقم 2” للخلية البحرية من الفريق العسكري المرابط في الشيلي والذي حرره باتريك ج. ريان الملحق بالبحرية الأمريكية والوثيق الصلة بالضباط المتورطين في الإطاحة بأليندي. جاء في تقريره أن يوم 11 شتنبر1973 شبيه باليوم الذي شهد إنزال قوات التحالف بشواطئ نورماندي كما تضمن ارتياحه بحدوث الانقلاب في الشيلي واصفا إياه بالرائع..
بقلم : أحمد رباص
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.