إن هذه السلسلة، أردناها أن تكون بداية الكلام فيما يتعلق بالفقه في بلداننا العربية؛ خلافا لما كان الأمر عليه في كل المراحل الماضية، والتي كانت شؤون الدين توكل فيها، إلى الفقهاء وحدهم؛ وكأنهم من يعنيهم ذلك من دون الناس. وهذا قد أسس من غير شك، لاستبداد فقهي رسمي، نرى أنه كان أضر على أمتنا من الاستبداد السياسي.
إن الدين شأن أمة، لا شأن جماعة ولا أفراد. والدولة القطرية، لا ينبغي أن تعمل دينيا، في اتجاه يعاكس استراتيجية الأمة، ثم تعتقد أنها على سواء السبيل. ومن أجل هذا، على الشعوب أن تكون وصية على هذه الاستراتيجية؛ حتى لا تتعرض للتلاعب أو المساومة. إن المسؤوليات من جميع الأصناف، لم تعد في مرحلة العولمة منوطة بالحكومات وحدها، ولا بالإدارات؛ ولكنها أصبحت عائدة إلى الشعوب نفسها، التي ينبغي أن تحرص على مصالحها كلها. وذلك لأن القوى العالمية، لم تعد تطيق الحكوماتُ مواجهتها الآن؛ بعد أن تغولت، وامتلكت أزِمّة الدول في أيديها. لا يتمكن من مواجهة قوى عالمية، إلا شعوب بأكملها؛ وحبذا لو اتحدت الشعوب أيضا فيما بينها.
في مناخ عولمي كالذي وصفناه، لن يتمكن فقهاؤنا، من القيام بواجبهم نحو دينهم، وهم من عجزوا قبلاً، عن الوقوف للمنكر في بلدانهم الصغيرة. ليس الأمر متعلقا بمغالبة داخلية، كما كان في الماضي؛ وإنما هو انتخاب تُمليه الضرورة في زماننا. لا يهمنا مبدئيا من يتقدم الجموع فيه، بقدر ما يهمنا، من يستطيع تحقيق الغايات المرجوة، بأقل التكاليف.
إن القراءة التي قدمناها في هذه السلسلة، لا شك هي متقدمة على الوعي النخبوي والشعبي، عندنا، على السواء. ولا شك أيضا، أننا قد تخطينا فيها كثيرا من الحدود، بحسب التقاليد والأعراف الماضية. وقد أمطنا اللثام بذلك، عن مواضيع كانت مجهولة للعموم، وأحيانا للخصوص أيضا. كل هذا، من أجل بلوغ أقصى وضوح ممكن، للصورة التي عليها واقعنا اليوم؛ عسى أن نستشرف من خلالها، ما سيكون عليه المستقبل القريب، بإذن الله.
إن ما نسمعه عن “السلام العالمي”، قد بدأ الطِّلاء التجميلي يرتفع من على وجهه. وبدأت معالم القبح تلوح شيئا فشيئا، لتفاجئ الأغرار من أمثالنا. قد اعتدنا من حكامنا في مرحلة ماضية، توافقا مع أقوياء العالم، يجعلهم يفعلون في الداخل بنا ما يحلو لهم. وقد صدّقوا، لجهلهم بحقيقة ما كان يجري، أن الدعم الخارجي سيدوم؛ فإذا بهم بين عشية وضحاها، يُنظر إليهم شزْرا، بعد أن صاروا داخليا أشباه أعداء لشعوبهم؛ أو هكذا على الأقل، أُريد لهم أن يظهروا.
إن كل هذا، يُنبئ عن تخطيط شامل، لم يُراع فيه حاكم ولا محكوم. فنحن في أعين العنصرية البغيضة، أبناء أب واحد؛ لا ينبغي أن يتعدى مرتبة خِدمة أسياده. وها قد طلع نور الفجر، على ما كانت المنطقة تخشاه، ولا أعدت له عدة. ظننا أن من لا يعتدي على غيره، لا يُمكن أن يُعتدى عليه!.. صدّق البعض منا، أكذوبة العدالة الدولية؛ وعلّموا شعوبهم الإيمان بها… وأُهمل الدين في مقابل ذلك، تحت إشراف فقهائنا، الذين لا خبر لهم عما يُحاك للجميع. هم فرحون بمناصبهم، كما يفرح الصبيان بألعاب العيد!..
من أجل ذلك، أردنا أن نخاطب الشعوب بخطاب لم تعهده، ولا ظنت أنه سيوجَّه إليها يوما. فهي كانت مطمئنة لحكوماتها وفقهائها؛ بل ولقد تنازلت أحيانا عن حقوقها، حتى لا تعيش يوما كهذا الذي يعود فيه الأمر إليها، مرة أخرى. لم يعتن أحد بتدريبها على مواجهةٍ من هذا الصنف، ولا أُخبرت أن ما يحدث، كان ضمن الاحتمالات القريبة. إن غباء حكوماتنا، كان يجعلها أشد إخلاصا للأعداء منها لشعوبها… وهذا الخطر الذي نتكلم عنه، ما زال لم يطل برأسه كاملا بعدُ!.. ما هو قادم، هو أدهى!..
إن ديننا، قد دلنا على مواطن القوة لدينا، وعلى مواطن الضعف في مقابلها. وأوضح لنا ما يوصل إلى النجاة، مما يودي إلى التهلكة. ووصف لنا العباد، بأدق الأوصاف، حتى نعلم مَن معنا، ممن هم علينا. واستأمنّا نحن -الشعوب- فقهاءنا على هذه الأمانة، كما تستأمن الشعوب الأخرى رؤساءها على مفاتيح التحكم في القنابل النووية. ولم يُفد في النهاية شيء من ذلك، ما دمنا كنا جميعنا مغيبين، نعيش في أحلام نسجناها من خيوط ماضينا؛ حتى انفصلنا عن حاضرنا إدراكيا ووجدانيا. ولم يبق منا منسوبا إلى الحاضر إلا أجسامنا وما يتصل بها. وبهذا، أصبحنا مُعدّين لأن نكون نماذج للمُستَعمَر الجديد كامل الاستعداد.
ما زال بإمكان ديننا، انتشالنا من هذا المصير المجهول، الذي لم يكن في السابقين نظير له. ما زال بإمكاننا أن نستعيد قليلا من قوانا المسلوبة؛ إن نحن عدنا إلى الدين نستشفي بشفائه. إن الدين النافع، لا يُطلب عند المحترفين المتاجرين؛ ولكن يُطلب عند الربانيين، الذين استُحفِظوه من قِبل الله في كل زمان. على شعوبنا، أن تتعلم كيف تتوصل إليهم، وكيف تعرفهم. إن الأمر ما عاد استحبابا، أو واجبا كفائيا، كما كان؛ ولكنه أصبح عينيا، كما يعلم ذلك الفقهاء.
إن من أهم ما ينبغي أن يُعلم من استراتيجية المواجهة القادمة، أن تُتجاوز كل الخلافات الداخلية في الأمة. ونقصد بالدرجة الأولى، الخلاف الشيعي-السني. فلا كانت شيعة ولا سنة، إن نحن أسلمنا الأمة إلى أعدائها رخيصة!.. ولا كانت نسبةٌ مما نزعمه، إن نحن أخلفنا العهود مع الصحابة ومع آل البيت جميعا!.. إن تاريخنا كله ينظر إلينا؛ أنكون في مستوى أمجادنا معه، أم ننقلب وليس بيننا وبينه سبب ولا نسب؟..
إننا بكلامنا عن الفقه والفقهاء، لم نُرد أن نزيد الممزَّق تمزيقا؛ وإنما أردنا استنهاض الغافلين، ليقوموا على الثغور!.. من كان يرى أن كلامنا مفرِّق للأمة، فلينبذه وراء ظهره، وليجعلْه كأنْ لم أقل ولم يسمع!.. نعوذ بالله أن نكون من الفتانين، أو من المـُخذِّلين!..
لعل بعضا من قرائنا، سيحاولون على عادة الناس من مجتمعاتنا، أن يصنفونا، ليريحوا أنفسهم من تبعات كلامنا، إن هم صنّفونا. لهؤلاء نقول: نحن من غمار هذه الشعوب المسلمة؛ لا يعني كوننا مغاربة، أننا لسنا مصريين؛ ولا يعني كلامنا في السياسة أننا سياسيون؛ كما لا يعني انتقادنا للفقهاء الرسميين، أننا علمانيون؛ ولا يعني انتقادنا للعلمانيين أننا استئصاليون!… نحن نريد أن نعود شعبا واحدا، متكاملا متعاضدا، يفهم بعضنا عن بعض، ويتكلم بعضنا لسان بعض؛ حتى يمكن أن نعمل لوحدة نراها ضرورية، أكثر من أي وقت مضى.
ولعل القارئ قد لاحظ أننا لسنا مع الحكام على المحكومين، ولا مع المحكومين على الحكام. نحن ننتسب إلى الحاكم وإلى المحكومين، بما يأمرنا به الله، وبما يخدم الصالح العام. لم نضع في حسباننا، أن نستجلب فئة إلينا، لنواجه بها أخرى؛ بل إننا نتوقع في البداية النفور من الجميع. لا لأننا نسئ الظن بإخواننا من جميع الأطراف، ولكن لعلمنا، أن أسلوبنا في الخطاب جديد؛ قد يتطلب وقتا لاستيعابه. ونحن لسنا مستعجلين! … إنما هو كلام قلناه، قد ندرك زمنه، وقد لا نُدركه. المهم عندنا، هو أن تصل أمتنا في النهاية إلى غايتها، من غير كبير ضرر؛ وإن كنا نرى أن ما أصاب بعضا منا (كإخواننا السوريين)، لا مزيد عليه!..
إن شعبنا المغربي، مدعو إلى أن يتقدم الصفوف اليوم. وهذه هي خصلة الرجال المجهولين، الذين يصدقُ عليهم قول الشاعر:
سيذْكُرني قَومي إذا الخيْلُ أقْبلت وفي الليلةِ الظلماءِ يفتقدُ البدرُ
إن المغرب ملكا وشعبا (لا حكومة)، قادر على أن يكون ظهيرا للمسلمين في جميع أنحاء العالم. وقد بدأ إخواننا من جميع الشعوب، يُعربون عن ذلك، ويرجونه؛ كما بدأ الخصوم يُدركون مكانته التي تجاوزت، ما كان مُخصصا له عندهم ضمن مخططاتهم. إن مكانة المغرب في هذا الزمان من مكانة الدين. وإنها مسؤولية تاريخية نرجو أن يوفّق لها شعبنا، كما وُفّق سابقا لتجنُّب كثير من الفخاخ والكمائن.
إننا نراهن على علمانيي المغرب، للدخول في مشروع مغربي شامل، يكونون فيه العقل المدبّر، والمنطق الحارس؛ حتى لا نسقُط في التناقضات المنهجية، والتضاربات الفكرية، التي أوهنتنا كثيرا، إلى الآن. ونراهن على جميع الإسلاميين، ليكونوا في مستوى انتمائهم الديني، لا الجماعي (نسبة إلى الجماعة)؛ من أجل بناء مجتمع مسلم، يكون لبنة أولى في إعادة بناء الأمة بعد حين.
وفق الله الجميع لما يُرضيه سبحانه عنهم؛ وتقبل الله من كل المسلمين طاعاتهم في هذا الشهر المبارك الكريم. وصلى الله على سيدنا محمد رحمة رب الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين. والحمد لله رب العالمين.
يُنشر هذا المقال (من سلسلة سلطة الفقهاء وأثرها على الشعوب) بعد مرور 576 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.