منذ العهود القديمة، والناس من جميع التوجهات، يعيشون جدلية الاسم والمسمى. ومنذ أن وعَوا هذا، انقسموا إلى قسمين: قسم يعتبر المسمى قبل (أو مع) الاسم؛ وقسم لا يعتبر إلا الاسم. وجلي، أن القسم الأول، محقِّق؛ والثاني ملفِّق. ومن هذين الأصلين تنحدر جميع فروع الهدى، وفروع الضلال. والدين، باعتباره اسما، كثيرا ما يفقد مسماه، عندما يريد أهل الأهواء ركوبه، والتلاعب بمحتواه.
وإن إدراك الصلة بين اسم الدين ومسماه، هو من أسهل الأشياء على النفوس الفطرية الصافية؛ لكن النفوس تفقد صفاءها مع التربية المنحرفة، من المجتمع، منذ سنوات العمر الأولى. وقد يصل الأمر بالمرء إلى أن يفقد التمييز، إلى الدرجة التي تكون عمى تاما. وهذا هو ما يعطي أشد أنواع الكفر ظلمة. وقد يبقى لديه نوع تمييز، لكن مِن طرق طويلة ملتوية، يصعب معها الضبط؛ وهذا يحدث كثيرا للمفكرين المدمنين على الفكر. والدين في الحقيقة، لا يُدرَك إلا لمن كان قريبا جدا من الفطرة. وهو (الدين) بالنظر إلى هؤلاء، يكون كتنفس الهواء؛ يحدث منه النفع دون تفلسف أو تنطع.
وإذا حضر أهل البُعد، قالوا لا نتنفس حتى نعلم حقيقة الهواء، ومم يتركب؛ ونعلمَ عملية التنفس بكل مراحلها؛ فإذا تنفسنا، تنفسنا عن علم. وهؤلاء سينقطع منهم النَّفَس، قبل أن يتنفسوا. ومن نظر إلى تدين الصحابة رضي الله عنهم، فإنه سيجده بسيطا، لا ثقل فيه (الإصر)؛ يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. فلما جاء الغافلون في الأزمنة التي بعد زمانهم، صاروا يفككون الدين ويركبونه؛ يحللونه ويقارنونه، إلى أن فقدوا معناه، وانقطعوا به عن الله. فبقي لديهم الاسم منه، وذهب المسمى…
ومن ينظر إلى أحوال شعوبنا، مما قد يدخل فيما يُشبه الجنون الجماعي؛ أو مما تغيب معه البدهيات؛ أو مما تنفر منه الطباع السليمة؛ فإنه سيجد الدين المتحوِّل، سببا أساسا في كل ذلك. هذا هو ما جعل العلمانيين، يتوهمون أن أُسّ الفساد في مجتمعاتنا: الدين. وهم مصيبون مخطئون!.. مصيبون لأن اسم الدين يُطلق على السم الذي يتعاطاه جلّ الناس؛ ومخطئون، لأنهم لا يُميّزون هم أيضا بين الاسم والمسمى. ولو بحثوا عن مسمى الاسم الذي يتداولونه، لوجدوه بعيدا، تحت اسم فرعي مشبوه؛ أو تحت صفة ضعف محتقرة.
إن مما يميز العقلاء عن غيرهم، عدم الانسياق خلف الأحكام الجاهزة، عند التنزيل. نعني -مثلا- أنّ من يقول: إن الدين هو سبب النجاة في الآخرة؛ ثم يقبل أي مسمى للدين، ويمضي فرِحا؛ لا يكون إلا من الحمقى والسفهاء. ومع الأسف، أصبح هؤلاء غالبيتنا الغالبة. كيف يكون ذلك، والله يقول سبحانه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]؛ الخالص مما أُلصق به مما ليس منه!.. وأين الخلوص؟!.. لو كان الدين كما تفهم العامة منا، ما كان أول من تُسعّر بهم النار من خواصهم في الظاهر. يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ. فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَال. فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ! قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ. وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ؛ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ! قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْت. وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْت. وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ، تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[1]. ولو عدنا إلى صورة أولئك النفر في مجتمعاتهم، لوجدناهم من “أهل الدين”، من خاصتهم!.. وانظر بعد هذا حكم الله فيهم، لتعلم ما ذكرنا من مفارقة المسمى للاسم؛ والحكم لا يكون أبدا إلا للمسمى!..
ولو أردنا أن ننزّل معاني هذا الحديث، على واقعنا، دون أن ندخل في التفاريع الأخرى، لوجدنا أن الاعتناء بحفظ القرآن وتجويده، والتسابق على ذلك في المباريات الدولية، لا يمت إلى الدين بصلة؛ بل هو من الأعمال المستوجبة لدخول النار. ولو نظرنا إلى إنشاء الجمعيات الخيرية، والإتيان بالكامرات تصور توزيع الهبات على الأيتام، ليراها كل الناس، لوجدنا ذلك لا يمت إلى الدين بصلة؛ بل هو مما يستوجب دخول النار. ولو رأينا ما يقوم به، هؤلاء الذين يرحلون من مشرق الأرض إلى مغربها، ومن مغربها إلى مشرقها، طلبا للجهاد؛ من دون علم بشروط الجهاد ولا طُرقه؛ لعلمنا أن ذلك ليس من الدين في شيء؛ وأنه من مستوجبات دخول النار. ورغم هذا كله، فإنك تجد من فقهاء الدين، من يُفتي لهؤلاء وأولئك، بما يدفع بهم خارج الدين، لأغراض في نفوسهم، وإرضاء لشياطينهم.
وعلى هذا، فإن الدين ليس أمرا سهلا تبيُّنه في زماننا؛ ولا هو مقبول لدى من استولَوا على اسمه، يتاجرون به في كل الأسواق؛ ولا هو مما يأتي بالمِدْحة لصاحبه بين قوم اختلّت لديهم المعايير. قال أحد السابقين، يخاطب أهل زمانه بالمقارنة إلى القرون الأولى: “لو رأوكم، لقالوا: كافرون! ولو رأيتموهم، لقلتم: مجانين!”. ما أحسن الصمت!..
يريد لنا قوم، أن نتبرأ من عقولنا، وأن ننفصل عن ديننا؛ حتى نصدّق أنهم على دين!…
إن الدين في زمان انقلاب المعايير، يصير مشكوكا فيه وفي أهله. من كان يريد اتخاذ الدين وسيلة إلى الله سبحانه، فما أقرب غايته!.. بشرط أن يكون صادقا فيما يدّعي؛ لأنه إن تدين تدينا صحيحا، فلا أحد سيكترث له. فإن هو صبر على الخمول وقطع علائق النفس؛ فإنه سيكون عند الله مرْضيا. وأما إن دخل في زحمة المتدينين، ونافس على “الدعوة” وهو شيطان لعين؛ أو طلب الحكم لإقامة خلافة صبيان لاعبين؛ فإنه سيكون من أشد الناس ضررا على نفسه، وعلى مجتمعه.
لو سأل المسلمون أنفسهم: لِمَ صاروا أسوأ حالا من جُلّ الكافرين؟.. لوجدوا الدين أهم سبب لِما هم عليه؛ “دينهم”، لا دين الله!.. إن من أشد التلبيس الحاصل عند الناس، عدم التمييز بين الدينين. وما أسهل التمييز بينهما، لولا الهوى!..
إن الأمم الكافرة، تدبر أمورها -نسبيا- بما يعود على جميع “المواطنين” بالخير (المعتبر لديهم)؛ ونحن لا يهنأ لطائفة منا العيش، حتى تقطع دابر الطائفة المخالفة، أو تسلبها كل ما يُعتبر من ضرورات العيش، المكفولة للحيوان قبل الإنسان. نحن ما زلنا نناقش: “هل المرأة إنسان؟” و”هل السماء فوقنا أم تحتنا؟” و”هل الحاكم مطاع في كل شيء؟” و”هل الشعوب تختار حاكمها؟ أم إن كل من غلبها يفوز بها؟”.. إن هذه الأسئلة قد يسخر أطفال الكفار من سائلها!.. ونحن ما يزال “علماؤنا” مشغولين بها!.. إن كان الإنسان يُنسب إلى القرد عند قوم، فسنكون نحن أجلى مصاديق هذه النسبة؛ لأننا ما زلنا لم نبلغ العقل المكتمل الذي للإنسان!.. {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]. ما هذا العبث، الذي تعيشه أمة؟!.. لو كان الأمر متعلقا بجماعة أو حتى ببلد ما، لتفهمناه، وقلنا لعله أمر متعلق بالوراثة الجينية، أو بالمتغيرات البيئية والاجتماعية؛ ولكنه شأن أمة؟!..
إن من حقوق أطفالنا علينا، أن لا نسقيهم السم وهم بعدُ ألْيِناء!.. من حقهم علينا أن نعلّمهم الدين الأصلي، إن كنا نعلمه؛ أو أن نتركهم يبلغون سن التمييز ليختاروا؛ كي لا نعيد إنتاج الحمق الذي نحن عليه. وإن أكثر ما يأتي سم الدين، من عصارات المذاهب، التي طغت على الأصول، كما تطغى الخلايا السرطانية على تلك السليمة.
واعجب بعد هذا كله، عندما تجد السم معلّبا في دكاكين الفقهاء، يتسابق الناس إلى شرائه كالبضاعة النادرة!.. وويلٌ لمن لم يُصبه منه شيء!.. لأنه سيبقى على قيد الحياة وحيدا!..
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.