حضرات السيدات والسادة؛
إن اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي في شتى المجالات أمر واقع، بل إن التحول نحو الإيمان بقدرة الخوارزميات والشبكات العصبية الاصطناعية على محاكاة الذكاء الطبيعي، وتعميمها على كل مناحي الحياة أمر آت لا ريب فيه.
فالذكاء الاصطناعي، حضرات السيدات والسادة، “مفهوم” أصبح يؤثث صياغة خطاباتنا التدبيرية، و”مطمح” معبر عنه في العديد من البرامج والسياسات العمومية، إن لم يكن في سياق “رغبة محاكاتية”، فعلى الأقل في سياق ما يمكن أن نسميه بـ”الانبهار المجتمعي”.
لذا اسمحوا لي أن أستغل هذه الكلمة الافتتاحية لأتقاسم معكم بعض الأفكار، حول الموضوع، مشددا على أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تطور تقني، بل هو طفرة حضارية وثقافية مؤثرة في نمط تفكيرنا، وفي كيفية تفاعلنا مع بعضنا البعض ومع العالم من حولنا، مما يجعله تحولا شموليا يستدعي منا أكثر من مجرد “الانبهار”، ويتطلب منا في كثير من الأحيان الكثير من الحذر.
نعم، يجب أن ننظر إلى الذكاء الاصطناعي كفرصة لضمان الحقوق الارتفاقية وتطوير سبل التمتع بها، ولكن أيضا، كتحد يحمل كثيرا من المخاطر على “البيئة الحقوقية” نفسها.
السيدات والسادة
لن نختلف في كون الذكاء الاصطناعي يقدم العديد من الفوائد في مجال الخدمات العمومية، من خلال أدوات قوية تساعد الفاعل العمومي على تحسين الأداء واتخاذ القرارات الأفضل في مختلف الجوانب الإدارية، عبر الرفع من قدراته التحليلية والتنبؤية، مما سيزيد من فهم الاتجاهات والأنماط السائدة في الخدمات الإدارية، وسيؤثر بالتالي على صياغة السياسات، وعلى مستوى التفاعل بين السلطة الإدارية والمواطن بشكل يؤدي إلى تحول في العلاقة بينهما من بوابة القرارات التدبيرية.
ببساطة لأن الوجه المشرق للذكاء الاصطناعي في مجال الخدمات العمومية، ينبني على استثمار تقنياته لتحليل انتظارات المرتفقين والتنبؤ بالسلوك الارتفاقي واتجاهاته المستقبلية بهدف التفاعل معها بقرارات مستنيرة تزيد من رضا المرتفقين..
لذا، نجد أن من يمكن أن أصفهم بالمتفائلين أو المتحمسين يتمسكون في نقاشاتهم، عن حق، بما نعتبره جميعا نعمة الذكاء الاصطناعي المتجلية في التخطيط لتحسين التفاعل مع المواطنين وفهم احتياجاتهم وانتظاراتهم، وتحليل الأداء الإداري، عبر زيادة موثوقية التنبؤ بالاحتياجات الإدارية، وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد في العمليات الإدارية، وأيضا في المساعدة في اكتشاف الاختلالات.
وعموما، يمكن أن يُحدث الذكاء الاصطناعي بهذا المنظور تحولات إيجابية كبيرة في كيفية تقديم الخدمات العمومية للمواطنين، وفي تحسين كفاءتها وفعاليتها، والانتقال نحو مفاهيم جديدة تؤطر خدماتنا العمومية من قبيل “الإدارة التوقعية” و”الخدمات التوقعية” …إلخ.
ومع ذلك، نعتقد أن الموضوع يجب أن ينظر إليه أيضا من زاوية “فكرة السيادة الإدارية”، إن صح هذا التعبير، والتي أختزلها في قدرة الدولة على التحكم في استدامة خدماتها لمرتفقيها دون تأثر أو تبعية، خاصة وأن للأمر ارتباطا كبيرا بمدى “السيادة التقنية والتكنولوجيا” للدولة، ما دام تحليل البيانات الضخمة (Big Data) يرتبط ارتباطا وثيقا بالقدرة على جمع وتحليل هذه البيانات في حواسيب بمواصفات عملاقة وتقنيات عملاقة وبميزانيات عملاقة أيضا.
هذا دون أن نستبعد التحديات الأخلاقية والقانونية، وآثارها على فكرة “السيادة الإدارية” من زاوية الخصوصية الهوياتية، ومن زاوية التغيرات المفروضة أحيانا في هيكلية الإدارة وأنماط الارتفاق العمومي للتكيف مع البرامج الجاهزة، بشكل قد يؤدي إلى التأثير على هندسة علاقة السلطة الإدارية بالحقوق.
ينضاف إلى هذا وذاك، ضرورة الانتباه للنقاشات والمخاوف المرتبطة بالتأثير المحتمل للشركات العملاقة على نوعية وطبيعة الخدمات الإدارية المقدمة، بسبب تحكم هذه الشركات في البيانات والتكنولوجيا، والتي قد يصل تأثيرها إلى مستوى تقليل سيطرة الحكومة على خدماتها، أو قد يصل إلى حد التأثير على السياسات الارتفاقية العامة و بداية التبعية الارتفاقية.
وهو ما يجرني، حضرات السيدات والسادة، للحديث عن ضرورة توفير استراتيجية حكومية واضحة في مجال الذكاء الاصطناعي، تستطيع تحقيق الاستدامة وتوفر الإجابة عن كل التخوفات، وتفتح المجال لتطور ذكي يتسم بالعقلانية والتقنين والتوازن، ويراهن على الاستثمار في تطوير التكنولوجيا الوطنية، ويضمن التنافسية في تقديم الخدمات الإدارية، لأن غياب استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي، سيؤدي لا محالة إلى رفع مستوى المخاطر في مجال الخدمة العمومية، سمتها العشوائية وعدم التنسيق، وغياب العدالة المجالية وبالتالي غياب كل مقومات الحكامة…إلخ.
السيدات والسادة؛ لأننا واثقون من أن “سرعة” تطور مجالات الذكاء الاصطناعي عامل مؤثر على مستقبل الخدمة العمومية، فإننا نرى أن تطوير استراتيجيات وسياسات تواكب هذه السرعة بمرونة وفعالة، وتراعي التوازن بين الابتكار والحماية في إطار نظام بيئي (Ecosystème) آمن وأخلاقي يشجع المشاركة المجتمعية في مناقشة وتطوير سياسات الذكاء الاصطناعي ذات الصلة بالخدمات العمومية، أمر حيوي ومستعجل.
السيدات والسادة؛
جانب آخر لا يقل أهمية في موضوع لقائنا اليوم، هو جانب المخاطر، وبغض النظر عن كون هذا الجانب يجرنا في شق منه إلى الحديث عن بعض المقومات الديموقراطية، فإنني سأكتفي بالإشارة إلى بعض المحاذير ذات الصلة بعلاقة المواطن بالإدارة، والتي تشكل مصفوفة المخاطر التي تحظى بنقاشات جدية على المستوى الدولي، من قبيل انتهاك الخصوصية والمس بالمعطيات الشخصية التي تصاحب عمليات تجميع البيانات، ومن قبيل وما يمكن أن ينتجه تحليل المعطيات من تمييز غير مبرر ضد بعض الأفراد أو الفئات الاجتماعية؛ ومن قبيل إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق أهداف غير معلنة، على حساب حقوق المواطنين؛ ومن قبيل تفاقم الفجوة الرقمية والاستبعاد الرقمي، واللامساواة في الولوج إلى الخدمات وزيادة عدد المهمشين رقميا. ناهيكم عن مخاطر احتمال استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تضليلية توهم بوجود خدمات غير موجودة فعليا، أو تخلق عوائق تقنية تؤثر على المواطنين وتؤدي إلى عزوفهم عن المطالبة بحقوقهم الإدارية أو تحول دون وصولهم إليها بدوافع مختلفة.
السيدات والسادة؛
إن هذه المخاطر إذا ما انضافت إلى زيادة وتيرة الاعتماد على التكنولوجيا في تقديم الخدمات الإدارية، تجعلنا من هذا المنبر نشدد الدعوة إلى ضرورة تبني إطارات تنظيمية وقوانين مندمجة تضمن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي ومسؤول، وآمن، وضامن لحماية حقوق المواطنين والمستفيدين من الخدمات الإدارية، ومراع لمعايير شفافية الخوارزميات المستخدمة في تطوير وتشغيل النظم الذكية.
السيدات والسادة؛
أعتقد أن الإقرار بحداثة النقاش العمومي الخاص بالذكاء الاصطناعي في مجال الخدمات الإدارية ومراقبة السياسات العمومية، وظهور مجالات تحليلية جديدة تستند إلى تقنيات التحليل الاستنباطي للبيانات، والذكاء الاصطناعي التنبؤي، وما يعرف ب “التوجيه الجماعي” إلى جانب أمور أخرى، كلها معطيات تشرعن بقوة سؤال دور مؤسسة الوسيط في هذا المجال. لذا أبادر إلى القول بأن الإطار التشريعي الحالي يوفر مدخلا للرقابة، على الأقل بالنسية لعمليات وضع ومناقشة وتنفيذ السياسات العمومية ذات الصلة بالارتفاق العمومي، وتقديم الرأي والتوجيه عند الطلب. ومدخلا لتقديم المقترحات والتوصيات التي تخدم مصالح المرتفقين، فضلا عن آليتي الرصد والتقارير حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الفضاء الارتفاقي.
هذا طبعا بالإضافة إلى أسانيد الاختصاص العام المتمثل في البحث والتحقيق في الشكايات والتظلمات المتعلقة بتأثيرات الذكاء الاصطناعي التي تصنف ضمن خانة التجاوزات أو الانتهاكات الارتفاقية.
حضرات السيدات والسادة؛ إن كنت من خلال هذه الكلمة المختصرة حاولت التعبير عن قناعة مفادها أن الذكاء الاصطناعي واقع حتمي، فإنني في نفس الوقت أدعو إلى بلورة استراتيجية مندمجة واعية بمختلف جوانب التحول المجتمعي الذي يطرحه الموضوع، وأعتقد أن الخطوات الأولى لهذا الأمر في مجال الخدمات العمومية يجب ألا تستبعد منطق المزاوجة بين الفوائد المتاحة تكنولوجيا والاحتياجات البشرية والثقافية والحقوقية للإدارة والمرتفق. في سياق نظام تصور مرن وقابل للتكيف لمواجهة التحديات والتغييرات المستمرة في البيئة العملية، على ضوء “مؤشرات الجاهزية الرقمية” و”مؤشرات الذكاء الاصطناعي ” ومتطلبات “القانون الدولي لحقوق الإنسان”.
شكرا لكم
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.