مداخل الحكم الذاتي ما بين الإجرائية والضمانات الدولية
استكمالا لنشر الورقة المرجعية التي أعدها الدكتور مولاي بوبكر حمداني، المتخصص في العلاقات الدولية ورئيس مركز التفكير الإستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، على أجزاء، وتحت عنوان: “مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء”.
نضع بين يدي القراء الجزء السادس الذي يتناول المدخلين المرتبطين بالإجرائية والضمانات الدولية.
المدخل الإجرائي: بناء الثقة، إدارة التعقيد، وتحقيق الواقعية
ويستفاد من المدخل الإجرائي التدريجي التراكمي أن تنزيل مشروع سياسي ومؤسساتي معقد وطموح بحجم الحكم الذاتي، خاصة في سياق نزاع طويل الأمد يتسم بانعدام الثقة بين بعض الأطراف وبتراكمات تاريخية وسياسية معقدة، يتطلب فلسفة براغماتية واقعية ومقاربة مرنة وحذرة، تعتمد على التقدم خطوة بخطوة (Step-by-step approach)، لبناء الثقة بشكل متواصل وتدريجي، وتقييم النتائج المحققة في كل مرحلة وتصحيح المسار عند الضرورة.
فبدلاً من محاولة تطبيق شامل وفوري لجميع جوانب نظام الحكم الذاتي دفعة واحدة، بما قد يثير مقاومة غير متوقعة أو يؤدي إلى صعوبات عملية في التنفيذ أو يخلق فراغاً مؤسسياً، تقترح هذه المقاربة البدء بتفعيل الجوانب التي تحظى بتوافق أوسع أو التي تعتبر ذات أولوية ملحة أو الأقل إثارة للجدل، مع تأجيل الجوانب الأكثر تعقيداً أو حساسية، مثل نقل بعض الصلاحيات السيادية أو إنشاء هيئات قضائية محلية متخصصة، إلى مراحل لاحقة بعد توفر الشروط اللازمة.
ومن الأهمية بما كان التوضيح ان هذا التدرج المدروس يهدف في المراحل الأولى إلى تحقيق “مكاسب سريعة وملموسة” (Quick Wins) ، مما يعزز ثقة الساكنة المحلية والفاعلين السياسيين في جدوى العملية، ويظهر بشكل عملي الفوائد الملموسة للحكم الذاتي كإطار لتحسين ظروف العيش وتعزيز المشاركة الديمقراطية.
يمكن أن يشمل هذا التدرج على سبيل المثال البدء بنقل صلاحيات محددة وواضحة في مجالات التنمية الاقتصادية المحلية (مثل تشجيع الاستثمار المحلي، دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة)، أو الشؤون الاجتماعية (إدارة برامج المساعدة الاجتماعية المحلية)، أو الثقافة (دعم الجمعيات الثقافية المحلية، تنظيم مهرجانات جهوية)، أو البيئة (تدبير النفايات الصلبة، حماية المواقع الطبيعية المحلية)، إلى المجالس الجهوية المنتخبة الحالية أو تلك التي سيتم انتخابها وفق القانون التنظيمي الجديد.
ويترافق هذا النقل التدريجي للصلاحيات مع تزويد الهيئات الجهوية بالموارد المالية والبشرية اللازمة لممارستها بفعالية، إضافة الى برامج مكثفة لبناء قدرات المنتخبين والأطر الإدارية المحلية، ومع تحقيق النجاح في هذه المجالات الأولية، وتراكم الخبرة العملية لدى الفاعلين المحليين، وتوطيد آليات التنسيق والتعاون بين السلطات المركزية والجهوية، وتعزيز مناخ الثقة المتبادلة، يمكن الانتقال تدريجياً في مراحل لاحقة إلى نقل صلاحيات أوسع وأكثر حساسية، مثل صلاحيات تشريعية محلية في مجالات محددة، أو إدارة قطاعات حيوية كالتعليم أو الصحة على المستوى الجهوي، أو إنشاء الشرطة المحلية، وصولاً في نهاية المطاف إلى التطبيق الكامل والمتكامل لنظام الحكم الذاتي الموسع كما سيتم تحديده في الاتفاق السياسي النهائي والقانون التنظيمي المطبق له.
وسوف تسمح هذه المقاربة التراكمية بالتعلم المستمر من التجربة (Learning by doing)، وتكييف الآليات والإجراءات التنظيمية مع الواقع المتغير واحتياجات الساكنة، وإدارة التوقعات بشكل واقعي لدى جميع الأطراف، وتجنب الصدمات المؤسسية أو السياسية المفاجئة، كما تتيح وقتاً كافياً لبناء التوافق السياسي والاجتماعي اللازم حول كل خطوة من خطوات التنفيذ، وتفكيك المقاومات المحتملة بشكل تدريجي.
ويشير خبراء إدارة التغيير وتنفيذ السياسات العامة إلى أن المقاربات التدريجية والتصاعدة (Incrementalism) غالباً ما تكون أكثر نجاحاً واستدامة في البيئات السياسية والاجتماعية المعقدة وغير المستقرة، لأنها تقلل من المخاطر الكلية، وتسمح بالتكيف المستمر مع الظروف، وتزيد من فرص قبول التغيير من قبل الفاعلين المعنيين.
في سياق تنزيل الحكم الذاتي بالصحراء، يمكن لهذا المدخل أن يساعد في تجاوز العقبات التاريخية والنفسية، وإشراك مختلف الفاعلين بشكل متزايد في بناء المشروع، وتحويل الحكم الذاتي من مجرد مفهوم نظري إلى مسار عملي ملموسة يتطور بشكل تدريجي، مما يجعله أكثر جاذبية وقابلية للتطبيق على المدى الطويل، يتطلب هذا المدخل، بطبيعة الحال، تخطيطاً استراتيجياً دقيقاً يحدد بوضوح مراحل التنفيذ وأولوياتها ومؤشرات قياس التقدم، وآليات مرنة وشفافة للمتابعة والتقييم والتصحيح المستمر للمسار.
المدخل المرتبط بالضمانات الدولية.. استدامة الحل القائم على الحكم الذاتي
من المؤكد أنه حتى بعد التوصل إلى اتفاق سياسي نهائي حول الحكم الذاتي، وإقراره دستورياً وقانونياً، وتنزيله إجرائياً على الأرض، تظل مسألة ضمان استدامة هذا الحل على المدى الطويل، وحمايته من أي محاولات مستقبلية للتراجع عنه أو تقويضه، رهينة بتوفير إطار متين من الضمانات الدولية (International Guarantees).
وفي هذا الصدد يرى الفقه الغالب أن بناء آلية أو ترتيبات دولية، تحظى بقبول الأطراف المعنية ومباركة المجتمع الدولي، وبشكل خاص مجلس الأمن الدولي، سوف تضمن احترام جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب الاتفاق، وتمنع أي طرف من التنصل منها، وتساهم في ترسيخ الحل السياسي وتثبيت الاستقرار الإقليمي بشكل دائم، بحيث تكتسب هذه الضمانات الدولية أهمية حاسمة بالنظر إلى الطبيعة المعقدة للنزاع، وتاريخه الطويل الحافل بالتوتر وانعدام الثقة بين بعض الأطراف، ووجود قوى إقليمية قد تكون لها مصالح متباينة تجاه الحل، واحتمال ظهور تحديات أو خلافات في المستقبل حول تفسير أو تطبيق بنود اتفاق الحكم الذاتي.
ما يستدعي الإيضاح هنا هو إن وجود ضمانات دولية قوية وذات مصداقية تعمل كشبكة أمان تحمي الاتفاق وتزيد من فرص نجاحه واستمراريته، ويمكن أن تتخذ هذه الضمانات الدولية أشكالاً متعددة ومتكاملة، يتم التفاوض بشأن تفاصيلها بين الأطراف المعنية وبمواكبة من الأمم المتحدة والقوى الدولية المؤثرة، بحيث قد تشمل هذه الضمانات المحتملة، على سبيل المثال:
أولاً، إقرار الاتفاق النهائي في قرار ملزم لمجلس الأمن الدولي، ربما بموجب الفصل السابع من الميثاق إذا سمحت الظروف السياسية بذلك (وهو أمر صعب التحقق لكنه يظل الطموح الأعلى)، أو على الأقل تبني قرار قوي بموجب الفصل السادس يؤيد الاتفاق ويحث جميع الدول الأعضاء على احترامه ودعمه.
ثانياً، إنشاء آلية دولية محددة لمراقبة تنفيذ الاتفاق بشكل نزيه وموضوعي، ورفع تقارير دورية إلى الأمين العام ومجلس الأمن حول مدى التزام الأطراف ببنوده، يمكن أن يتم ذلك من خلال تكييف وتوسيع ولاية بعثة المينورسو الحالية، أو إنشاء هيئة مراقبة جديدة لهذا الغرض، تتشكل من خبراء دوليين وممثلين عن الأطراف.
ثالثاً، التزام صريح وواضح من القوى الكبرى (خاصة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن) ومن الدول المجاورة ذات التأثير (خاصة الجزائر وموريتانيا) بدعم الاتفاق السياسي والامتناع عن أي عمل أو تصريح قد يقوضه أو يشجع على عدم احترامه، وتقديم الدعم السياسي والاقتصادي اللازم لنجاح تجربة الحكم الذاتي.
رابعاً، يمكن التفكير في نشر عدد محدود من المراقبين الدوليين (مدنيين أو عسكريين غير مسلحين) في مرحلة انتقالية أولى للمساهمة في بناء الثقة، وتأمين عملية عودة اللاجئين (إذا تمت)، وضمان سير الانتخابات الأولى لهيئات الحكم الذاتي بنزاهة وشفافية.
خامساً، وضع آلية دولية أو إقليمية محايدة وفعالة لتسوية المنازعات التي قد تنشأ في المستقبل حول تفسير أو تطبيق اتفاق الحكم الذاتي أو القانون التنظيمي المنبثق عنه، يمكن اللجوء إليها إذا فشلت الآليات الوطنية (مثل المحكمة الدستورية أو القضاء الإداري) في حسم الخلاف.
ولعل طبيعة ومدى هذه الضمانات الدولية سوف تعتمد بشكل كبير على موازين القوى الدولية والإقليمية السائدة عند التوصل إلى الحل، وعلى درجة التوافق التي ستحيط بالاتفاق السياسي، وقد أشار المغرب في مبادرته الأصلية للحكم الذاتي إلى انفتاحه واستعداده لمناقشة مسألة الضمانات اللازمة في إطار المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة.
وصفوة القول إن الحصول على ضمانات دولية قوية وذات مصداقية من شأنه أن يعزز بشكل كبير ثقة جميع الأطراف المعنية، وخاصة ثقة ساكنة الصحراء، في مستقبل الحل واستدامته، ويشجع على الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة، ويساهم في تطبيع العلاقات بين دول المغرب العربي بشكل نهائي، مما يخدم مصالح السلم والاستقرار والتنمية المشتركة في المنطقة بأسرها، وكما تظهر العديد من تجارب تسوية النزاعات الداخلية أو الإقليمية حول العالم، فإن الضمانات الدولية غالباً ما تلعب دوراً حاسماً في تأمين استدامة اتفاقات السلام الهشة، خاصة في مراحلها الأولى بعد عقود من الصراع وانعدام الثقة، لذلك يشكل العمل الدبلوماسي الهادئ والمستمر على بناء توافق دولي حول ضرورة وطبيعة هذه الضمانات جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية شاملة لتنزيل وتأمين نجاح مبادرة الحكم الذاتي وضمان عدم انتكاس المسار نحو الحل.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.