ثمة ما يثير التساؤل عند سبر اغوار تجاذبات بين المغرب وفرنسا مافتءت ترخي بضلا لها على العلاقات الدبلوماسية بلغت من الضبابية حدا ينذر بأن هذه المرة هناك مخاض لولادة علاقة جديدة بين الرباط والاليزيه مرتهنة لمنضاركلا البلدين و بورصة المؤشر الجيوسياسي الإقليمي والدولي.
فتصريح السفير الفرنسي السابق المعتمد في الأمم المتحدة جيرارد ارود باتهام المغرب باستعمال ورقة الابتزاز يندرج في هذا السياق المتسم باتساع دائرة الخلاف غير المسبوق ولا يمكن ايضا أن يكون سلوكا متفردا عن ذلك الفتور المهيمن على التقارب الموروث عن حقبة استعمارية ديغولية تقسم بموجبها العالم إلى مناطق نفوذ كانت لفرنسا اليد الطولى في افريقيا وتحديدا بالشمال والساحل الغربي.
الازمة الفرنسية المغربية لم تصل في الواقع إلى الدرجة التي يمكن معها القول بإمكانية حدوث القطيعة، بل ان ذلك من باب المحال في السياسة والإدارة بالمغرب وكذلك الأمر بالنسبة لفرنسا، إذ تجمعهما علاقة متشابكة، لكن تضرر العلاقات بين الفينة والأخرى يذكي الوعي مجتمعيا في المغرب ويوجهه ضد المنافع التي تجنيها فرنسا منه، وضد وضعية الامتياز التي تنالها في الاقتصاد والثقافة وغير ذلك من أشكال الحضور على حساب أطراف ودول اخرى يمكن للمغرب أن يحقق معها علاقات يربح منها الجميع.
من المرجح اذن ان هناك خلافا في الآونة الأخيرة سوآءا اكان صامتا ام ظاهرا للعلن في بعض المحطات مما ينبئ بان حبل الود مهدد تماسكه أمام هبوب رياح إعادة التوازنات العاتية على كافة جبهات النظامين العالمي والمحلي.
قطار المتغيرات الاقتصادية الذي يجر معه الحسابات الجيواستراتيجية يسير بالسرعة الفائقة والذي لم يعد يحتمل معه أي تأخير ربما هو الذي دفع بالساسة الفرنسيين الى تغيير نظرتهم الامنية والعسكرية لمنطقة نفوذهم الافريقي وترتيب جدوائية حضورهم المادي في ظل التجاذبات الحالية المرتهنة على أساليب أكثر نجاعة لبسط المنطق الجديد للرابحين عبر الشراكات الاستراتيجية ولعل انسحاب قوات “با رخان ” من مالي وما تلا ذلك من فشل في مقاربتهم الامنية الكلاسيكية للمنطقة هو ما عزز اختراق قوى دولية جديدة لهذا الحزام الموروث لفرنسا.
الادعاء بالابتزاز المغربي لفرنسا قد يكون له بالفعل ما يبرره في حالة ان علاقات الثنائية متكافئة وتخضع لنتيجة رابح رابح او حتى ان المغرب له قدرة لإلحاق الضرر بفرنسا ليتجاوز مصالح الشراكة الى المصالح العليا في الامن والاستقرار وهو أمر يفنده واقع الحال عندما يتعلق الجوهر بمطالب تندرج في إطار الدفاع عن سيادته على وحدة ترابه.
لقد تناولت وسائل الإعلام عديد القضايا الخلافية ورغم حساسية ملف التأشيرات فإن تجاوزه لا يبدو مستعصيا على آليات احتواء المشاكل بين الرباط وباريس، كما ان تهمة التجسس الموجهة للمغرب على مؤسسات ومسؤولين ساميين بفرنسا بتطبيق “بيغاسوس “اعقبه إعلان لجنة التحقيق في برامج التجسس التابعة لبرلمان الإتحاد الاوروبي في تقرير مفصل براءة المغرب من التهم التي وجهت إليه بل ان رئيس اللجنة الهولندي “جيرون لينرز ” صرح بانه لم يتم تقديم اي دليل يسند هؤلاء التهم وذلك بعد مرور اربعة اشهر لينجلي مدى الانزعاج الفرنسي من الحلفاء الجدد للمغرب ضمنهم إسرائيل المصدرة لهذه التكنولوجيا.
المراقبون يرجحون وجود عناصر خلافية أخرى أكثر عمقا بين البلدين لكن أكثرها شيوعا النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية والمطالب المغربية بموقف فرنسي يقر سيادة المغرب على صحراءه بوضوح ليتطابق ليس فقط مع الشريك الاقتصادي الأول والتقليدي للمملكة وهو ما يضفي على هذه العلاقة طابعا استثنائيا بل لدورها في تسخير رصيدها الكولونيالي إلى جانب الاسبان في الطي النهائي لهذا الملف المفتعل.
ذاكرة المقاومة بالصحراء لازالت تحتفظ بدور الطيران الفرنسي في قصف اعضاء جيش التحرير المغربي في العملية المعروفة” بايكوفيون ” كما ان نفس الذاكرة تختزن أصل التصادم الجزائري المغربي مرده للخلاف حول ترسيم الحدود الموروثة عن فرنسا التي كانت تراودها أوهام الخلود الاستعماري بالجزائر إلى ضم أجزاء من التراب المغربي بتندوف وكولومب بشار وهي الألغام التي انفجرت بعيد الاستقلال. ففرنسا حاليا تنشط بنادي اصدقاء الصحراء حيث التداول بشأن مستجدات النزاع المفتعل وكانت الرباط تعول على الموقف الفرنسي الذي كان في الغالب ايجابيا ضد انحراف الوضع القائم كما هو الشأن في رفض الاقتراح بتوسيع صلاحيات المينورسو لتشمل حقوق الإنسان التي كانت قد تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما إبان التداول حول قرار مجلس الأمن أبريل 2013.
نفس المنحى اتخذه الموقف الفرنسي في جميع قرارات مجلس الأمن المتعاقبة آخرها رقم 2654 أكتوبر 2022 الى درجة وصفت دائما فرنسا بالمنحازة للطرف المغربي دون ان يزحزحها ذلك للخروج من النطاق الرمادي للنزاع.
فرنسا ربما أدركت على غير السابق بأن قوة المغرب كامنة في إمكانياته ومساندة حلفاءه الجدد في تأمين نقله إلى مصاف النفوذ الذي لا يستهان به.
توسع دائرة الاعترافات والمواقف المؤيدة لمبادرة الحكم الذاتي للعلن من قوى عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية ثم بعد ذلك اسبانيا والمانيا والبرتغال وغيرها ينذر بعزل فرنسا في زاوية اللعب على الحبلين التي تروم الابقاء على وضع الجمود لمواجهة التحديات النوعية التي باتت تفرض على الدول الواقعة في المجالات الباردة للتعايش مع قدر الجغرافيا باستعجال البحث عن الطاقة و تأمينها مما كان له أثر إطلاق شرارة التنافس بين الدول المغاربية في إعادة حسابات التموقع ورسم خريطة التحالفات الجديدة التي لم تعد تجدي فيه نفعا عصا الوسطية الفرنسية للهروب إلى الأمام.
من المرجح ان دينامية الشراكات الاستراتيجية للمغرب مع الولايات المتحدة الأمريكية بالتحديد لا تحظى برضا الفرنسيين ينضاف الى ذلك الاهتمام المتنامي للانتيلجيسيا الغربية والامريكية بالتحديد(نخبة think tanks ) والتي اصبح المغرب يحظى ضمن دهاليز سياستها الاستشرافية باهتمام متزايد كما ان اوراش التنقيب المستمرة على الغاز والبترول بسواحل الصحراء المغربية وتوقعات التصدير الكبيرة للطاقة النظيفة تنذر بإعادة رسم هذه التوازنات.
سعي فرنسا عن كثب للحفاظ على مكانتها في المنطقة أو على الأقل تقليل خسائرها الاستراتيجية تبدو وكأنها تحت وطاءة مزيد من الضغوط ولا سيما إذا صارت منفردة في غياب سياسة اوروبية منسقة وقد تحتاج إلى معجزة للحفاظ على لعبة التوازن المعقدة في علاقاتها مع الرباط والجزائر.
اما هدوء الرباط وطول نفسها امام توالي أوراق الضغط الفرنسي الذي بلغ درجة دفع البرلمان الأوربي إلى إشهار ورقة حقوق الانسان بل والتمادي في إدانة المغرب برشوة البرلمانيين الاوروبيين دون تقديم أدلة تسند هذا الادعاء ،فلا نجد تفسيرا له خارج التقدير العميق لطبيعة التطورات التي حصلت على المستوى الدولي والاقليمي ولتنامي الحاجة الأمريكية والاوروبية لدور المغرب في محيطه الاقليمي اقتصاديا وتجاريا وامنيا وعسكريا بل ويبنى كذلك وهذا هو الأهم على معلومات دقيقة حول تغير المزاج الافريقي العام تجاه النفوذ الفرنسي بالقارة وتعاظم الشعور بضرورة إنهاء الهيمنة الفرنسية.
إبراهيم الكاتب: بلالي اسويح
محلل سياسي في الدبلوماسية و القانون الدولي
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.