بقلمالاستاذ: (أحمد رباص)
قبل الشروع توا في الموضوع الذي يقترحه عنوان هذه الورقة النقدية لا بد من التوقف قليلا عند دفتي غلاف الرواية لقراءة إشارتيهما وعلامتيهما..هكذا نجد أن الدفة الأولى، وهي وجه الكتاب، حافلة بكلمات يحيل بعضها إلى كائن حي يرزق وشخص آخر يعدم ميتا وغيابيا، كما يحيل البعض الآخر إلى الجنس الأدبي الذي سلمت به بدءا عند شروعي في قراءة هذه الرواية الصادرة عن “أفريقيا الشرق” كما تخبرنا بذلك الكلمتان الراسبتان في أسفل اللوحة. وفي قلب/مركز هذا القسم الأول من الغلاف، عرضت نفس الصورة لمقصلة واحدة بأربعة ألوان مختلفة يفضح ضعفها حضور اللون الأسود في عقر أعماقها.
في الدفة الثانية، وهي قفا الكتاب، اختار الناشر لزبونه القارئ هذا المقطع الجميل الذي ينبئ عن كونه أحسن الاختيار حقا:
“عندما يتحول عميد شرطة إلى وحش يفترس القيم، ويساهم في نشر العهارة، عابثا بأجساد النساء، مستهترا بنزيفهن،، لاهيا بتلك الدموع المنهمرة، من مقل توسلت في صمت وخشوع دون جدوى، مؤرخا بقضيبه الجنسي لفظائع، لا يمكن أن تنسى مهما تجاهلها الناس وتناسوها، فذلك يعني أن المجتمع لا تحميه السلطة، بل تحثه على التنكر لها، بالخوف منها، بدل احترامها ولاستنجاد لها حتى من أفرادها مهما كانت رتبهم ووظائفهم.”
الآن دعوني أعود إلى مسألة الفضاء في هذه الرواية، ولنبدأ بطرح هذا السؤال: ماذا تعني كلمة “فضاء”؟ من المعلوم أننا أمام واحدة من الكلمات التي يطول شرحها ويستعصي، نظرا لتنوعها الدلالي الموزع بين تداولها في الخطاب اليومي العام وبين استعمالها في الخطاب العلمي الخاص..ولتدليل هذه الصعوبةالمتمثلة في وفرة المعلومات الواردة في مادة “فضاء”، لا مناص لي من سلوك نهج الاكتفاء بتسجيل أهم معاني الكلمة مع إيراد البعض من دلالاتها الفرعية وسياقاتها التداولية في مجال العلوم والثقافة.
رجوعا إلى قاموس “Le petit Robert”، يستفاد من الصفحة 921 ومن التي تليها أن كلمة “Espace” اللاتينية الأصل كانت تعني مدة زمنية إلى حدود القرن السادس عشر. في غضون ذلك وبعده، اكتست بعدا دلاليا واحدا من حيث إحالتها على طول قياسي يفصل بين نقطتين أو خطين أو شيئين وعلى هذا الانفصال ذاته. ضمن هذا السياق يندرج فضاء الإشهار بما هو حيز مكاني أو زماني فاصل مخصص لاحتضان الإشهار وعرضه في مختلف وسائل الإعلام. وفيما بعد، أصبح للكلمة بعدها الثاني، إغذ غدت تشمل المكان والامتداد والساح والسطح، وإلى هذه الرتبة ينتمي مصطلح الفضاء الحيوي الذي يعني، من جهة أرضا تطالب بها دولة ما لآسباب ديمغرافية واقتصادية، ويعني، من جهة أخرى، فضاء ضروريا لراحة الإنسان الجسدية والنفسية.
ولما بلغت الكلمة بعدها الدلالي الثالث، انضافت إليها معان اخرى تحيل إلى التجاويف والمغارات والأمكنة المغمورة بالهواء أو بالماء والامتدادات اللانهائية المشكلة لمسارات موغلة في اللاتناهي بصمت رهيب حسب وصف باسكال الداعية المسيحي والعالم الرياضي.
من أجل إنهاء هذا الجرد لمعاني كلمة “فضاء” وقبل إغلاق القاموس، لا بد من الإشارة إلى أن الكلمة دخلت إلى بعد دلالي رابع فما فوق بفضل الهندسات اللاأوقليدية، وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا التعدد الدلالي والتنوع الإحالي إلى تأسيس علم يهتم بقياس ودراسة الخصائص النوعية للفضاء. إلى هذا الرصيد أضاف موريس بلانشو للكلمة ذاتها معنى آخر مستقرا عند فكرة مجردة عن شيء يقارن بالفضاء مثلما يفيد منطوق عنوان كتابه “الفضاء الأدبي”.
كما بدأت هذه الكلمة في أول مشوارها بالإحالة إلى الزمن، فقد ظلت مخلصة له وانتهت إلى التشبث به كما لو كان مقومها الرئيس، رغم مسار التطور الذي سارت فيه. ما سر هذا الحب الأعمى؟ سره هو قدرة الزمن الهائلة على الامتداد اللانهائي في الماضي والمستقبل معيدا في كل لحظة حاضرة كتابة تاريخ الأمكنة في ديوان يليق بمقام ملك الملوك.
حسب المفهوم الزمني المبتدإ والخبر، يجوز القضاء بأن الرواية استوحت مادتها المتخيلة، كما بشر بذلك المقطع الوارد آنفا، من بداية العقد الأخير من القرن الماضي التي شهدت محاكمة الكوميسير سيء الذكر.
ولعل هذا الاقتباس هو ما حكم على الراوي بأن يقلص غلافها الزمني إلى أقصى حد يسهل معه إشباع الرغبة الدفينة الثاوية خلف استلهام قضية “ثابت” والمتمثلة في أخذ العبرة مما جرى سعيا لإصلاح المجتمع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قيم إنسانية نبيلة وأصيلة مهددة بالانقراض أمام زحف الاستبداد/التسطيح/التنميط/التبضيع/التضبيع…
من المسلم به الذي لا يحتاج إلى دليل أن الرغبة في بسط الهيمنة على الفضاء نزعة غريزية لدى الإنسان كما لدى الحيوان. ومما لا شك فيه أن تلك النزعة هي منبع السلطة المطلقة التي تم بسطها على كل الفضاء الحيوي الضروري للراحة الجسدية والنفسية لذوي “الحظوظ السعيدة” على حساب العذاب الجسدي والنفسي للناس التعساء، البسطاء، أمثال أحمد اليتيم الأم والأب، الذي نال عطف وحنان الراوي حينما منحه دور البطل في روايته.
بعد أن تكفل عمه بتربيته، ترعرع أحمد في وسط قروي وهو يعاني من مظاهر التهميش والاستغلال والتفقير، فكان هذا الوضع كافيا لمنعه من اكتساب قدرات ومهارات بعيدا عن دائرة العمل البدوي العضلي في الحقول منذ الصباح الباكر حتى غروب الشمس. لكن الحياة في الفضاء القروي ليست كلها عملا شاقا في الحقول، بل تتخللها أيام هنية كتلك التي تصادفف الأسواق الأسبوعية بما هي فضاءات إشهارية تعرض فيها منتجات للاستهلاك الطبيعي وأخرى للاستهلاك الثقافي السياحي الفولكلوري.
أضف إلى ذلك المأدبات التي يدعى لها عموم السكان من قبل كبار وأعيان القبيلة حيث يحتسى ما في الكؤوس من سوائل ويلتهم ما في الأطباق من مأكولات على إيقاع “الغيطة” “والبندير” تارة والخيل والبارود تارة أخرى، في جو تسوده الرغبة الجامحة لدي المضيفين في إظهار مدى تعلقهم بقيم الكرم/الرجولة/الشجاعة/الشهامة/الفروسية. ليست هذه القيم حكرا على الأقوياء حصريا فيما يبدو، وإلا لما أقيمت تلك المحافل التي يروم متعهدوها من ورائها تكريس وترسيخ القيم الخاصة بأخلاق السادة، حسب تعبير الفيلسوف نيتشه، في نفوس العبيد الضعاف الذين ينساقون، بدون وعي، إلى الاستماتة في خدمة أسيادهم إلى حد التماهي معهم بالتبجح بتلك القيم على مستوى المبادئ وتراهم أسرع الناس إلى حذخيانتها عندما تكون أول فرصة سانحة.
ينتمي بطل الرواية إلى هذه العينة من الناس التي تعاني من الفقر المزدوج؛ ماديا وفكريا، ومع ذلك تسعى جاهدة لملء الفراغ الفكري بمعتقدات وقيم تخدم في الأصل “أسيادهم”، وتضمن بالأحرى خضوعهم عن طيب خاطر لاستغلالهم. هكذا يحصل الوعي البارنوي بين المثال والواقع، بين الصورة والجسد، بين الحلم والرؤية، إلخ..لكن بالرغم من هذا الانفصام المرضي واليتم المبكر بقيت آلة الحب في فؤاد أحمد تشتغل وتدور في اتجاه ابنة عمه التي اعتاد، بشكل موغل في البداوة، أن يترجم غيرته عليها بطرده لها حتى ولو تجشمت عناء جلب الماكل والمشرب لحسابه من الخيمة إلى الحقل الذي يعمل فيه.
ذات مساء علم أحمد لدى عودته إلى منزل عمه أن العائلة استقبلت نهارا أحد أقربائها كضيف جاء يخطب ود فاطمة لابنه. اسودت الدنيا أمام ناظره وتقلص أمل الظفر بفاطمة كزوجة المستقبل، ومع ذلك ظل يفكر ويفكر عساه يجد حلا مناسبا لمشكله، فقر عزمه أخيرا على شد الرحال صوب المدينة سعيا وراء الكسب السريع للمال الوفير.
إذن، هاجر أحمد، وهو روح ميتة، من فضاء القرية إلى فضاء المدينة ليتم إعدامه مرة اخرى. من هنا يكتسي عنوان الرواية دلالته: “إعدام ميت”.
لماذا ماتت روح أحمد فبل أن يحط الرحال بالمدينة كفضاء مغاير؟ الجواب سهل وبديهي، وهو أنه اعتقد أن الحب بضاعة تشترى بالمال ناسيا أو متناسيا أن أحسن بضاعة نقايض بها الحب هي المزيد من الحب ولو كان كنف العيش بسيطا، وليس المزيد من الجشع واللهاث والهرولة وراء الربح الوفير والسريع، من خلال عقد وإجراء صفقات مشبوهة، لا تعير للوازع الأخلاقي الإنساني أي اعتبار، أو من خلال استغلال نفوذ سلطوي للتحكم في رقاب العباد ومصائر البلاد، ضمانا لمصالح شخصية ضيقة لأنها أنانية؟
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.